
سيمون إدلشتاين يعود مظفَّرًا إلى لوكارنو بعد خمسين عامًا

مضت خمسون عامًا منذ آخر حضور لأفلام سيمون إدلشتاين في مهرجان لوكارنو السينمائي. وفي هذا العام، احتفت الدورة الثامنة والسبعون التي أنهت فعالياتها قبل أيام بالمخرج السويسري، بعرض نسختين مرمّمتين من أعماله الأولى، تكريمًا لمسيرته وإرثه الفني.
لم يكن التاريخ مُنصفًا تمامًا مع سيمون إدلشتاين. فبينما اشتهر بكتبه الفوتوغرافية، ملتقطةِ جمال دور السينما المتداعية حول العالم، ظلَّ المخرج وكاتب السيناريو بعيدًا عن الأضواء. ولكن أعاد له مهرجان لوكارنو هذا العام، الاعتبار عبر تكريم لافت.
ففي النسخة الثامنة والسبعين من مهرجان لوكارنو السينمائي، اختارت الإدارة فيلمين من أفلام إديلشتاين: “الأساليب الشريرة” (1973، Les Vilaines Manières)، “والغول” (The Ogre ،1986). وقد أعاد الأرشيف الوطني للأفلام ترميم العملين، بدعم من التلفزيون السويسري العمومي الناطق بالفرنسية (RTS)، وجرى عرضهما في قسم خاص، لإعادة اكتشاف السينما السويسرية.
وغالبًا ما تكون هذه البرامج الطريقة الوحيدة للتذكير بأفلام منسية طواها الزمن، وإعادة تسليط الضوء على السياقات والظروف التي أوجدتها.
التعلّم بالممارسة
على مدى مسيرته، ظلَّ إدلشتاين مخرجًا وثائقيًا غزير الإنتاج، وقد وصل رصيد أعماله إلى أكثر من 100 فيلم. والجدير بالذكر أن معظم أعماله أُنجزت لحساب التلفزيون السويسري العمومي الناطق بالفرنسية، التابع لهيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية، الشركة الأم لسويس إنفو (Swissinfo.ch).
بدأ سيمون إدلشتاين مسيرته مديرًا للتصوير مع المخرج ميشيل سوتر، الذي كان جزءً من المجموعة الخامسة. وبعدها، بدأ في إخراج أفلامه الخاصة، في نهاية حركة الموجة السويسرية الجديدة، في الستينات والسبعينات.

آنذاك، لم تكن هناك مدرسة لتعليم السينما في سويسرا، كما قال إدلشتاين لسويس إنفو، الذي أكّد تعلمه هذا الفن من خلال الممارسة وبمساعدة زوجته إليزابيث، المترجمة. ويضيف: “كان تعلُّم مهنة السينما يبدأ من العمل في التلفزيون”.
عندما علم سوتر برغبة إدلشتاين في أن يصبح مخرجًا، قرَّر مساعدته، وعرَّفه على منتجين فرنسيين كانوا وقتئذ مهتمين على نحو خاص بصناعة الأفلام السويسرية، والأهم من ذلك، بتمويل مشاريع المواهب الشابة.
وهكذا، دخل سيمون إدلشتاين عالم الإخراج السينمائي. وكان من أعماله الأولى، “الأساليب الشريرة”، أحد الفيلمين المعروضين هذا العام، في لوكارنو. يروي الفيلم قصة جان بيير، مضيف لبرنامج إذاعي شهير، جسّده جان-لوك بيدو. ويجري بطل الفيلم مقابلات مع نساء وحيدات، يواجهن صعوبة في العثور على شريك. ومن أستوديو التسجيل الخاص به، يجذب البطل انتباه ضيفاته، ويمنحهن شعورًا بالطمأنينة.
يتذكّر إدلشتاين قائلًا: “صادف أن كان هناك بث في فرنسا لموضوع شبيه بهذا تمامًا. لقد قمت بعمل فيلم وثائقي عنه، وتأثرت جدًا بالتعاطف المصطنع الذي أبداه الصحفيون تجاه هؤلاء الأشخاص الذين عاشوا حياة بسيطة، لم يكن أحد يهتم بها. ثم فجأة، كان هناك شخص أبدى اهتمامًا بهم، وطرح عليهم الكثير من الأسئلة”.
واليوم، يمكن لجان بيير أن يكون جزءًا من عالم البودكاست بسهولة.

ظهور خاص لدونالد ساذرلاند
في الفيلم، تقلب شخصية غامضة تلعب فرانسين راسيت دورها، حياة جان بيير المنظمة والرتيبة فجأة رأسًا على عقب. يلتقي بها في مصعد، ويصبح متورطًا معها في أعمال تخالف القانون، كالسرقة والسطو.
ويتميز الفيلم بأسلوب سردي فضفاض ومثير، مدعومًا بتصوير سينمائي بالأبيض والأسود، تولاه ريناتو بيرتا. وفي الخلفية، تظهر جنيف، موقع الأحباء الذين يجوبون المدينة بلا نهاية. كما يذكرنا بتحفة المخرج الفرنسي إريك رومير، “الحب في فترة الظهيرة” (L’Amour l’après-midi ،1972)، في استكشافه العملي للعلاقات والروابط، أو انعدامها، وهو موضوع لم يفقد أهميته إطلاقًا.

ولعلَّ أكثر الأمور إثارة للفضول في هذا الفيلم، هو الظهور المفاجئ والسريع للنجم الكندي الراحل، دونالد ساذرلاند. وتوضح إليزابيث: “كان دونالد ساذرلاند مغرمًا جدًا بالممثلة الرئيسية فرانسين راسيت، ولم يكن يتركها طوال فترة التصوير، ولم يكن لديه ما يفعله، وبما أنه كان نجمًا كبيرًا، قال سيمون إن هذه فرصة لفعل شيء معه”.
لكن لم يجد إدلشتاين دورًا مناسبًا لساذرلاند في اللحظة. لذا، طلب منه المرور أمام الكاميرا، كعابر سبيل يلتقط شيئًا من الأرض.
مشروع أكثر قتامة
أمَّا فيلم “الغول”، فكان مشروعًا مختلفًا تمامًا، وجاء بعد أكثر من عشر سنوات من “الأساليب الشريرة”. لقد ولت فترة البراءة لدى إدلشتاين منذ زمن طويل؛ كان الموضوع أكثر قتامة، مليئًا بالفكاهة السوداء الحالكة.
تتبع القصة جان (جسّده جان-كوينتين شاتلين)، مدرس اللغة اللاتينية، المتأمّل في مشاعره المعقدة تجاه والده (جسّده مارسيل بوزوفي، الذي لا يُنسى) المتوفى فجأة. يبدأ الفيلم بمشهد يستعيد فيه جان ذكريات من طفولته، ويستذكر والده وهو يلعب معه، ويضع سكينًا بشكل خطير على رقبته. يستحضر المشهد أجواء فيلم “شارع الحرباء” (Chameleon Street) لويندل ب. هاريس الابن، أو مؤخرًا فيلم “مُتّ يا حبي” للين رامزي، أو بمصطلحات دينية، يعيد تمثيل تضحية إبراهيم بابنه إسحاق.

يبدأ جان، الذي أصبح الآن بالغًا، في رؤية الهلوسات حيث تتلاشى الحدود بين الواقع والأحلام. ويشغل والده أفكاره، فيجد ملاذًا في العلاقات العاطفية مع نساء شابات. أمَّا المدرسة الثانوية التي يدرس فيها، فغريبة، وطلابها أغرب، أحدهم يبدو وكأنه يموت ببطء كل يوم، حرفيًا ومجازيًا.
يتردد جان في الاعتراف بأنه يعيش وضعا غير عاديٍ. في هذا الجزء، يتشابه الفيلم أكثر مع الكوميديا السوداء الأمريكية للمراهقين، “هيذرز” (Heathers، 1988)، أكثر من أي شيء في السينما الأوروبية، إذ أن كلاهما من الحقبة نفسها، ويشيران إلى شخصيات تعيش في واقع مبالغ فيه، كوسيلة للتعامل مع المدرسة.
من الكتاب إلى الشاشة
يعود أصل القصة إلى الكتاب حامل الاسم نفسه للمؤلف والرسام السويسري، جاك شيسيه. ويوضح إديلشتاين: “كنا أصدقاء بالفعل، عندما حصل كتاب ‘الغول’ على جائزة غونكور الأدبية المرموقة في فرنسا”. كما حقق كتاب شيسيه نجاحًا تجاريًا كبيرًا.
ويضيف إدلشتاين: ”قال شيسيه إنه يود أن أُكيّف العمل للسينما. بالطبع كانت تلك فرصة كبيرة، لأن الحقوق تم التفاوض عليها مباشرة مع المؤلف، ما سهّل كثيرًا الحصول على التمويل”.
لكنه يتذكر أنها لم تكن مهمة سهلة: “الكتاب صعب القراءة، وأسلوبه بعيد عن اللغة السينمائية؛ لذا، مثّل تكييفه تحدّيًا كبيرًا”. وفي معظم أحداث الفيلم، يعيش جان هاجسًا مرضيًا بالموت، غير مدرك للإشارات الكثيرة المحيطة به.

تم تصوير فيلم “الغول” بالألوان، بعدسة المصور السينمائي برنارد زيتسرمان. واستفاد إدلشتاين من الحس البصري الحاد، الذي صقله في بداياته، كمدير تصوير، ليبرع في جوانب الفلم التقنية. ولعلَّ التصوير السينمائي هو أول ما يجذب المشاهد.ة إلى عمل صعب في جوهره. غير أن مواجهة وحشية في المشهد الختامي تدمر أي خفة أو لعب، بدا إدلشتاين وكأنه يستكشفها طوال الفيلم.
عودة الروح
لم ينتج إدلشتاين العديد من الأفلام الروائية. فبعد فيلم “الأساليب الشريرة”، صدر له فيلم “رجل هارب، 1980” (Un Homme en Fuite)، تلاه فيلم “الغول” بعد ست سنوات. بعد ذلك، أخرج فيلم “وجوه سويسرية، 1991” (Visages Suisses )، وهو واحد من 16 فيلمًا قصيرًا، أُنتجت بالتعاون بين منظمة السويسريين.ات في الخارج، والتلفزيون السويسري العمومي الناطق بالفرنسية، وبرعاية من نستله وساندوز، للاحتفال بالمئوية السابعة لنشأة الكنفدرالية السويسرية، في عام 1991 .
استغرق الأمر عقدًا آخر قبل إصداره فيلمًا متوسط الطول بعنوان العبور في الغسق، 2000” (Passage au Crépuscule ). أمَّا آخر أفلامه، “فكان بضعة أيام قبل قدوم الليل” (Quelques Jours Avant la Nuit)، الذي رأى النور في عام 2008.
ويقول إدلشتاين إن مشاهدة أفلامه مع الجمهور على شاشات لوكارنو الكبيرة هذا العام، جعلته يشعر وكأنه في الثلاثين من عمره مرة أخرى. وفي ذلك العمر، نافس فيلمه “الأساليب الشريرة”، على جائزة الفهد الذهبي في لوكارنو، عام 1973. ويضيف: “هذا الشعور الغريب بأنني شاب مرة أخرى… يجعلني أرغب في صنع فيلم جديد”.
تحرير: إدواردو سيمانتوب وسيمون برادلي
ترجمة: عبد الحفيظ العبدلّي
مراجعة: ريم حسونة
التدقيق اللغوي: لمياء الواد

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.