مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

سوريا: في البدء كان “المجتمع المدني”

في الأسابيع الماضية، ومع استئناف السنة المدرسية امتدت شرارة الثورة الشعبية السورية إلى المدارس الابتِـدائية والتكميلية في العديد من مناطق البلاد (في الصورة: تلاميذ مدارس عامودا في مظاهرة نظمت يوم 16 أكتوبر 2011) Keystone

".. وفي حين يبدو أن النظام السوري نجح نِـسبياً في تقييد قُـدرة الشعب على التظاهر، إلا أن اندِلاع الإحتجاحات في المدارس، يدلِّـل على محدُودية قُـدرة الدبّـابات وغرف التعذيب والميليشيات، على إخضاع المجتمع ككل".

هذه كانت خلاصة تقرير من بيروت نشرتْـه “فاينانشال تايمز” قبل أيام، تضمّـن معلومات عن تمدّد الثورة الشعبية السورية إلى المدارس الابتِـدائية والتكميلية، حيث قام التلامذة مع بداية السنة الدِّراسية بتمزيق الكُـتب التي تتضمّـن، إما إشادات بعائلة الأسد أو بحزب البعث العربي الاشتراكي، كما نظّـموا تظاهُـرات داخل المدارس وخارجها، هتفوا خلالها: “لا دراسة قبل إسقاط النظام”.

بالطبع، تحرُّك التلامذة ليس جديدا. فالانتفاضة الرّاهنة حدَثت أصلاً بفعل قيام أجهزة الأمن باعتِـقال وتعذيب نحو 15 تلميذاً في مدينة درعا، كانوا يخطّون شعارات على الجُـدران.

الإضافة في هذا التحرُّك، هو أنه جاء بعد أن أدّى القمْـع المتواصل للمظاهرات الشعبية طيلة الأشهر الستّـة الماضية، والذي تضمَّـن اعتقال ما يعتقد أنه عشرات الآلاف من الناشطين وقادة الثورة، إلى خفْـض عدد المتظاهرين من نحو مليون ونصف المليون (كإجمالي المتظاهرين في كل المدن السورية)، إلى مئات وحتى أحياناً عشرات الآلاف.

فقدان السيطرة..

“ثورة الأطفال” هذه، إذا جاز التّـعبير، جاءت لتؤكِّـد ما كان يتداول قبل ذلك عن فقدان النظام الأمني السوري السيْـطرة على مناطق شاسعة من البلاد. ويوضِّـح قائد بارز في الثورة السورية لـ swissinfo.ch هذه الصورة على النحو التالي:

“يمكن أن نأخذ عيِّـنة عما يجري في حمص. ففي الشوارع التي تكتظّ فيها الدبّـابات والمُـدرّعات، يكون من الصّـعب على الناس النزول إلى الشارع للتظاهر. لكن في الشوارع الذي تقع مباشرة خلْـف مناطق التواجُـد الأمني، تكون السلطة هناك للشعب. وبما أن الخمسين أو المائة ألف جندي الذين تستخدِمهم السلطة لقمْـع الانتفاضة، لأنها تضمن ولاءهم لها (من أصل نحو 400 ألف جندي وضابط، هم قِـوام القوات المسلحة السورية)، فإن ما يجري في حُـمص هو عيِّـنة نموذجية عمّـا يجري في أنحاء سوريا كافة”.

هذا التوصيف يتقاطع مع معلومات كانت قد أشارت إلى أن عناصر الأجهزة الأمنية الخَـمس عشرة (المخابرات أو ما يطلِـق عليها السوريون “الشبيحة”)، التي يقدَّر عددها بمئات الآلاف، كانت قد أخرجها المتظاهِـرون من المعركة منذ الأشهر الثلاثة الأولى للانتفاضة، سواء عبْـر القتل المباشر أو الرّصد والملاحقة. وبما أن هذه الأجهِـزة كانت أداةَ السيْـطرة الحقيقية على المجتمع عبْـر الخوْف والإرهاب والتعذيب، وبما أن الخمسين أو المائة ألف جندي لا يستطيعون بمُـفردهم السيْـطرة على مساحة سوريا الشاسعة، التي تبلغ 185،180 كيلومتراً مربعاً، فإنه يمكن القول أن المجتمع المدني السوري خرج بالفعل عن طوْق حُـكم الدولة السُّـلطوية للمرّة الأولى منذ أكثر من 50 عاماً.

هذا التطوّر يمكنه أن يوضِّـح بمفرده لماذا لن يستطيع النظام الانتِـصار في المعركة الراهنة أو أن يُـعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل منتصف شهر مارس الماضي، حين انطلقت الانتفاضة.

فالزمن على المستوى الدّاخلي (كما على المستوى الخارجي، كما سنرى بعد قليل) لم يعُـد يلعب لصالح النظام. والانشِـقاقات الواسعة في الجيش بتأثير تمرّد المجتمع المدني، الذي ينتمي إليه العسكر، وعلى رغْـم شحّ المعلومات الدّقيقة حولها، لم تعُـد سرّا، وهي مرشَّـحة للتفاقم.

وتدهْـور الوضع الاقتصادي بفعل الانتفاضة والعقوبات، سيؤدّي، آجلاً أو عاجلاً، إلى انتقال التمرّد أو العِـصيان المدني إلى دِمشق وحلب، حتى ولو كان الأمر لأهداف مصلحية اقتصادية بحْـتة فيهما، لا بل يبدو أن رُوح التمرد وصلت أيضاً إلى الطائفة العلوية، إذ ذكر أن وفداً علوياً مليّاً، اجتمع بالرئيس بشار الأسد مؤخّـراً، ونقل إليه امتِـعاضه ممّـا آلت إليه أحوال البلاد بفعل الخِـيار الأمني. كما أبلغه رفْـضه المُـطلَـق لجرّ البلاد إلى حرب أهلية. ويقال أن الرئيس الأسد استشاط غضباً من هذا الموقف وأنهى الاجتماع بشكل جاف.

.. وانقلاب خارجي

على الصعيد الخارجي، تُـشير كل المُـعطيات إلى أن الصين، التي مارست حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن قبل أسبوعين مع روسيا، أبلغت الحكومة السورية رسمياً أن “صبْـرها نفذ” من تلكُّـؤِها في تنفيذ الإصلاحات السياسية المطلوبة، وألمحت إلى أنها قد لا تحمي النظام السوري مُـستقبلاً في المحافل الدولية.

الأمر لم يصل بعدُ إلى هذا المستوى بالنسبة إلى روسيا، لكنه قد يصِـل بالفعل إذا ما نفذّت الدول العربية النّـافذة في المنطقة تهديدها بعد أسبوعين بتجميد عُـضوية النظام السوري في الجامعة العربية (وبالتالي، رفع الغطاء عنه دولياً)، إذ حينها ستجِـد روسيا نفسها أمام خيار مستحيل: خَـسارة كلّ علائقها التجارية والسياسية والعسكرية مع مُـعظم الدول العربية؛ (ناهيك بالغربية)، في مقابل ربْـح نظام عربي واحد معرّض للتّـداعي.

وفي هذه الأثناء، يبرز الدّور الكبير في المعمعة السورية للتّـحالف الاستراتيجي الأمريكي – الأوروبي، الذي يُـمكن اعتباره الأول من نوعه غداة انتِـهاء الحرب الباردة، والذي يستند إلى تفاهُـم على ضرورة تغيير كل الأنظمة العربية (والنظام الإيراني)، كوسيلة وحيدة لمكافحة ظاهرة الإرهاب ودمْـج الشرق الأوسط في نظام العوْلمة، وبالطبع، سوريا في مقدّمة هذه الأنظمة، بسبب الدّور الذي تعلبه في المنطقة كجِـسر بين إيران وبين المنظمات المسلحة الموالية لها.

التحرُّك الغربي لا يزال قصراً على العقوبات الاقتصادية، لكنه قد يصبح أقوى بعد انتهاء مهمّـة حلف الأطلسي بنجاح في ليبيا مع النهاية المأساوية للعقيد معمر القذافي. وهنا، قد يكون مفيداً التذكير بأن وليد المعلّـم، وزير الخارجية السوري، كان صرّح بتفاؤل مُـفرط قبل نحو الشهرين بأن التدخل العسكري الدولي في سوريا غيْـر وارد “بسبب فضيحة حلف الأطلسي في ليبيا”، أي عجْـزه عن حسْـم الأمور هناك.

بَـيْـد أن الصورة تغيرّت الآن. فحِـلف الأطلسي نجح بالفعل ومن دون أن يتكبّـد خسارة بشرية واحدة، وبالتالي، حسابات وزير الخارجية السوري التي لم تكُـن، كما هو واضح، في محلِّـها، يجب أن تتغيّر.

هذه التطوّرات الدولية، هامّـة بالطبع. لكن يبقى الأهَـم ما يجري في داخل سوريا. وهذا الذي يجري، لا يقل عن كونه زلْـزالاً تاريخياً. زلزال تكون فيه اليَـد العُـليا لمُـجتمع مدني بدأ يستعيد حريته وحقوقه على حساب دولة سُـلطوية، أزف وقت رحيلها.

عمان (رويترز) – هرَع أحمد بجبوج لفتح متجره، حيث يبيع الأثاث، عندما اخبره الجيران ان قوات الامن تقتحم المتاجر بالقوة لإنهاء إضراب عام استمر أكثر من اسبوع في مدينة درعا السورية.

وقال السكان إن مئات الجنود انتشروا في الشارع التجاري الرئيسي في درعا، محطمين واجهات المحال ومهدّدين أي شخص يرفض إنهاء الاضراب الذي دُعي إليه، احتجاجا على تصاعد الحملة العسكرية التي يشنّـها الرئيس السوري بشار الاسد ضد المحتجِّـين المطالبين بالديمقراطية.

وقال سالم الجوابرة، الذي يعمل قصابا في منطقة المحطة في درعا عبْـر الهاتف “التجار يفتحون متاجرهم في ظل التهديد بالقوة. لقد حطمت قوات الأمن المحال الليلة الماضية وحذّرت أي شخص لا يفتح متجره من أنه سيجد رجل أمن في المتجر. الناس يخشون تلف ممتلكاتهم”.

وكانت درعا، التي تقع في جنوب سوريا قرب الحدود مع الأردن، مهد الانتفاضة ضد حكم آل الاسد المستمر منذ 41 عاما، وعانت بشدة من الحملة الامنية التي تشنّها القوات الموالية للرئيس.

وشلت المدينة بالكامل، بسبب الاضراب الذي استمر ثمانية أيام وانتشر إلى مدن كبيرة أخرى، من بينها حمص في الشمال الغربي.

وقال ناشطون إن المثابرة في الإضراب، أظهرت مدى تصاعد المشاعر المعادية للنظام السوري بعد سبعة أشهر من المظاهرات والعنف المضاد. وقال مأمون أبو نبوت، المقيم في منطقة المحطة في درعا “لا يوجد أحد تقريبا لم يُـعتَـقل أو يخْـتفي ولده أو شقيقه أو أحد أقربائه. لقد أريقت دماء كثيرة ويقول كثيرون إن طريق العودة انقطع حتى سقوط النظام”.

وفشلت دعوات سابقة للإضراب ولم تحظَ الدعوات لموظفي القطاع العام بالامتناع عن العمل بتأييد يذكر. وقال سكان في درعا إن المحال والمتاجر عادت إلى نشاطها المعتاد ببُـطء يوم الخميس 27 أكتوبر،  مع عودة التجار والعاملين إلى المنطقة التجارية في المدينة، التي تُـعدّ أحد المراكز التجارية في جنوب سوريا.

وعادت الفاكهة والخضروات إلى واجهات العرض في سوق الحسبة مع عودة عدد قليل من الأكشاك إلى فتح أبوابها خلال الأسبوع الماضي، وقد تحطمت كلها يوم الأربعاء، عندما وصل الإضراب إلى ذِروته. وعادت الحافلات إلى المحطة الرئيسية في المدينة، وهي تعُـجّ بموظفي القطاع العام القادمين من القُـرى المحيطة.

كما عادت المحال والمتاجر إلى فتح ابوابها في الحراك، وهي بلدة كبيرة تقع على بعد نحو 30 كيلومترا إلى الشمال من درعا. وتدفّـق العمال الموسميون على المدينة، التي شهدت سنوات من هجرة سكان القرى الباحثين عن العمل اليها.

وأظهر الإضراب تنامي قوة القيادة السرية الشابة الجديدة، التي تدير الاحتجاجات، والتي قال سكان إنها فاجأت المسؤولين في درعا بمهاراتها في التنظيم.

وقال شهود عيان إن ملثمين شبان خرجوا إلى الشوارع ليلا وعلّـقوا ملصقات وكتبوا لافتات على جدران المدارس والمتاجر والبنايات العامة، تأييدا للإضراب وتحذيرا للتجار من فتح محالهم. وقال احمد ابا زيد، المدرس في مدرسة مهنية “هناك العديد من التجار الذين شكوا من الإغلاق وقالوا إن مصالحهم تضرّرت، لكنهم لم يكن لهم خيار إلا الانصياع لدعوات الناشطين مع هذا المناخ القوي من الرأي العام الذي يُـؤيدهم”.

بينما قال ناشطون إن الإضراب شجَّـع سكان درعا على تصعيد تحديهم إلى ما هو أكثر من الاحتجاجات اليومية وأعمال العصيان المدني. وقال أحد الناشطين ويُـطلق على نفسه اسم ابو سليمان “الإضراب كان له أكثر من معنى. لقد أعطانا الثقة بأننا ما دُمنا تمكّـنا من الوصول إلى هذا المدى، فنحن قادرون على فعل الكثير ما دام الشارع لنا”.

(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 27 أكتوبر 2011).

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية