مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

مكتب “الميبي” في واد، والمجتمع المدني في واد آخر

نظم المكتب الإقليمي للميبي ورعى ومول العديد من الندوات وورش العمل واللقاءات في العامين الماضيين (المصدر: الموقع الرئيسي للميبي) swissinfo.ch

تغيبت معظم المنظمات والهيئات والأحزاب ذات التوجه الديمقراطي والمستقلة في تونس عن الحفل الذي أقامه السفير الأمريكي يوم 4 يوليو في مناسبة عيد استقلال الولايات المتحدة.

ومن الواضح اليوم أن سياسة واشنطن في العراق أضرت بشكل فادح بالعلاقات التي كانت قائمة بين أمريكا والديمقراطيين التونسيين.

مثل كل عام، فتح السفير الأمريكي بتونس مساء يوم الإثنين 4 يوليو الجاري مقر إقامته الجميل، الواقع على هضبة ضاحية “سيدي أبو سعيد”، للمئات من رموز النخبة بمختلف المواقع والمشارب، وذلك احتفالا بعيد استقلال الولايات المتحدة.

وفي هذه السنة، امتلأ المقر كالعادة بعدد واسع من أبرز وجوه المجتمع في مختلف الحقول، لكن ما “أزعج” أصحاب الدعوة ولفت الأنظار هو غياب معظم ممثلي شبكة الجمعيات والأحزاب المستقلة عن السلطة.

فمثلا، لم تشارك الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وجمعية النساء الديمقراطيات، وجمعية المحامين الشبان، والمجلس الوطني للحريات، واللجنة الدولية للدفاع عن المساجين السياسيين، ونقابة الصحفيين، فيما اكتفى الاتحاد العام التونسي للشغل بمشاركة محتشمة جدا تمثلت في حضور المكلف بالقطاع الخاص في المكتب التنفيذي.

كما امتنع عن الحضور “الحزب الديمقراطي التقدمي”، وحزب “التكتل من أجل العمل والحريات”، بل حتى “حزب الوحدة الشعبية”، قرّر هو أيضا الامتناع عن المشاركة. وخلافا لذلك، لوحظ حضور حركة التجديد، والسيد إسماعيل بولحية رئيس “حركة الديمقراطيين الاشتراكيين”، وممثلين عن “الاتحاد الديمقراطي الوحدوي”.

حصلت هذه المقاطعة شبه الجماعية لحفل الاستقبال، في الوقت الذي يستعد فيه المكتب الإقليمي لمبادرة الشراكة المعروفة باسم (الميبي) لإحياء الذكرى السنوية الأولى لافتتاحه بتونس.

فهل يعني ذلك أن الدبلوماسية الأمريكية قد فشلت في إقامة جسور تفاهم وتعاون مع المجتمع المدني التونسي، رغم كثرة حديث مسؤولي الإدارة في واشنطن عن الديمقراطية والإصلاح السياسي في العالم العربي؟

ما دام هناك احتلال للعراق ..

يعلل نجيب الشابي مقاطعة حزبه لحفلات الاستقبال التي تنظمها السفارة الأمريكية بالإشارة إلى ما انتهى إليه تقرير أشرفت عليه السيدة مادلين أولبرايت (وزيرة الخارجية السابقة)، وجاء فيه أن “الميبي” هو مبادرة تابعة لوزارة الخارجية الأمريكية، وهو ما جعل الديمقراطيين العرب يرفضون استلام الأموال من هيئة حكومية، كما أوصى التقرير بتحويل تلك الميزانية إلى منظمات أمريكية غير حكومية، مثل الوقف الوطني للديمقراطية “NED”.

وخلص الشابي من ذلك إلى القول، بأنه “ما دام هناك احتلال للعراق، فإن حزبه سيستمر في مقاطعة الاحتفالات الرسمية التي تنظمها السفارة الأمريكية”، لكنه استدرك قائلا، بأن ذلك “لا يعني القطيعة التامة”، وهو لا يرفض الجلوس مع أعضاء السفارة أو محاورة أي مسؤول أمريكي يزور تونس، ويكون مستعدا للاستماع لوجهة نظر الحزب في السياسة الأمريكية.

وأنهى الشابي تصريحه لسويس أنفو، بأنه “كناشط سياسي لا تهمه الأموال الأمريكية، بقدر ما يهمه الدعم السياسي للنضال الديمقراطي”.

مـأزق

وجهة نظر الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، أو الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات غير مختلفة عن تلك التي عبّـر عنها الأمين العام للحزب الديمقراطي التقدمي، أي مقاطعة المناسبات الاحتفالية مع قبول الحوار، وإن كان بعض أعضاء هذه الجمعيات يذهبون إلى أكثر من ذلك، ويحرصون على دفع الموقف نحو المقاطعة التامة للسفارات الغربية، وذلك من منطلق مواجهة “السياسات الإمبريالية”.

هذا الموقف المتحفظ الذي تبنّـته الجمعيات التونسية المستقلة عن السلطة، وضع الساهرين على تنفيذ مبادرة الشرق الأوسط (MEPI) في مأزق حاد.

فالمعلوم أن البيت الأبيض خصّـص لهذه المبادرة في العالم العربي 300 مليون دولار، رصد منها للساحة التونسية ما يعادل تسعة مليون دولار، لم يستفد منها أي طرف من أطراف المجتمع المدني الفعلي، وهو ما وفّـر الفرصة للجمعيات المرتبطة بالحكومة لكي تستفيد من هذا الفراغ.

وهكذا، بدل أن تكون هذه المبادرة الأمريكية في خدمة الجمعيات المستقلة ذات التوجه الديمقراطي التي تعاني من صعوبات شتى، وبعضها أصبح وجوده مهددا نتيجة قلة الاعتمادات، تحولت “الميبي” إلى مؤسسة داعمة لجمعيات وهيئات لا تخفي ارتباطها بالحزب الحاكم في تونس، وتتمتع بدعم مالي من عديد الجهات الرسمية والدولية.

أربعة محاور

لقد مولت “مبادرة الشراكة” أكثر من عشرين مشروعا طيلة السنة المنقضية (2004 – 2005)، بعضها كان محليا، وبعضها الآخر إقليميا استفاد منه بعض التونسيين.

وقد شملت هذه المشاريع محاور أربعة، هي دعم الديمقراطية والاقتصاد والتعليم والنساء. كما تنوّعت بين تدريب الصحفيين أو رجال القانون والمستشارين البرلمانيين، وبين برامج خاصة بتنمية القدرات لدى القيادات، خاصة النسائية منها أو القطاع الخاص، لكن حجم استفادة المجتمع المدني المستقل في تونس بقيت محدودة جدا، ولم تتجاوز بضعة أفراد فقط شاركوا في عدد من الدورات التدريبية.

ومن بين المشاريع التي موّلتها “الميبي” المساعدة التي تلقاها “معهد الصحافة وعلوم الاخبار” لدعم الشراكة مع جامعة جورجيا، أما المساعدة التي تلقاها “اتحاد المرأة التونسية” وكانت في حدود 600 ألف دولار وكتبت عنها الصحف، فلم تكن من الميبي، ولكنها هبة من واشنطن قامت السفارة الأمريكية بتسليمها إلى رئيسة الإتحاد.

لا يتولى مكتب “مبادرة الشراكة” الاتصال بالجمعيات والمنظمات لكي يعرض عليها خدماته، وإنما يتلقّـى الطلبات من الجمعيات الراغبة في الحصول على مساعدة، وبعد دراستها تحوّل إلى واشنطن، وعند الموافقة، يسلم الشيك إلى أصحابه.

كما أن (الميبي) لا يتعامل مع الأفراد، ويحرص على التعاون مع المنظمات أو المؤسسات غير الحكومية، كما يمتنع عن التعامل مع الجمعيات غير المرخص فيها، ولا يسلم أي مساعدة لأي طرف بشكل سري، حيث يتولى الموقع الإلكتروني للميبي نشر أهم المعطيات عن المشروع والمستفيدين منه، والمبلغ الذي سلم في هذا الغرض.

مــراوحـــة

يضاف إلى ذلك، أن كل جمعية ترغب في تمويل أحد مشروعاتها لا يمكن أن تحصل على ذلك من الميبي مباشرة إذا ما اعترضت وزارة الداخلية أو الجهات الرسمية في تونس على الأمر. لكن لم تسجل حتى الآن أية حالة من هذا القبيل. ورغم أهمية هذا الشرط الإجرائي، إلا أن المبرر الرئيسي الذي استندت عليه الجمعيات المستقلة لتبرير مقاطعتها هو مبرر سياسي وليس تقنيا.

لقد أضرت سياسة الولايات المتحدة في العراق بشكل فادح بالعلاقات التي كانت قائمة من قبل بين واشنطن وعديد الديمقراطيين التونسيين.

يُـضاف إلى ذلك أن الكثير من النشطاء يشكون في جدية الخطاب الأمريكي الرسمي الخاص بنشر الديمقراطية، ودعم الحريات وحقوق الإنسان. ويقولون إن التحفظ الذي لا يزال يغلب على مواقف الدبلوماسيين الأمريكيين، وإحجامهم عن تأييد المطالب التي ينادي بها الديمقراطيون في تونس “يشكل دليلا على أن الإدارة الأمريكية لا تريد أن تغضب الحكومة التونسية، وترى فيها حليفا على أكثر من صعيد”، حسب قول أحدهم.

ورغم أن المؤشرات تدل على أن العلاقة بين السفارة الأمريكية ومبادرة الشراكة من جهة، وأغلب منظمات المجتمع المدني والأحزاب الديمقراطية ستبقى تراوح مكانها، إلا أن الأمريكيين سيواصلون محاولاتهم لترميم الجسور التي كانت تربطهم بالنُّـخب ذات التوجه الديمقراطي، والتي أضرت بها قنابل الحرب في العراق، والتورط في انتهاكات خطيرة في مجال حقوق الإنسان.

صلاح الدين الجورشي – تونس

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية