مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

انحسار المبادئ الأساسية لحماية المدنيين في الحرب

إيموجين فولكس

لا ينبغي أن يكون انتشار جائحة كورونا (كوفيد-19) الخبر الوحيد الذي يسترعي إنتباهنا في الوقت الحالي. فمع هذا الربيع، تحل علينا ذكرى مروعة جداً تتمثل بدخول الحرب في سوريا عامها العاشر. 

كيف سَمَحَ العالم باستمرار الصراع في سوريا كل هذا الوقت؟ هل يعود ذلك إلى إرتكاب الأخطاء أو إضاعة الفُرَص؟ أم أنه كان نتيجة الافتقار للإرادة بكل بساطة؟ وهل ارتَقَت جنيف الدولية، ولا سيما الدوائر المَعنية بالشؤون الإنسانية إلى مُستوى مسؤولياتها بهذا الشأن؟ 

تتضمن مسيرتي المهنية الآن قرابة عشر سنوات من تغطية جهود الأمم المتحدة في سوريا، من محاولات تقديم المساعدات، وإلى اللجنة التابعة للأمم المتحدة للتحقيق بشأن جرائم الحرب المُحتملة وسائر الجرائم ضد الإنسانية. 

أتذكر جيداً اليوم الذي صَدَرَ فيه أول تقرير لِلُجنة التحقيق الدولية المُستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية (في 22 أغسطس 2011). حينها، وَجَدْتُ صعوبة في العثور على الكلمات المناسبة للإبلاغ عن الفظائع التي قرأتها، وفي الختام، عندما ذكر التقرير على الهواء مباشرة بأننا نشهد “انزلاق سوريا إلى البربرية”. 

“الشيء الذي ميّز الحرب في سوريا هو انعدام أي حدود، فأنت مُستعد لتدمير تاريخك، وحتى هويتك للوصول إلى هدفك”

تفاؤل مبدئي

العديد من التقارير صَدَرَت منذ ذلك الحين، ما يجعلني افتقر إلى الكلمات الآن. وأحياناً، يصبح من الصعب أن نُذَكِر أنفسنا بالترحيب العالمي الذي استُقبِلَت به المظاهرات الأولى التي انطلقت في سوريا في مارس 2011 باعتبارها بارقة أمل. 

“كان هؤلاء من المُحَدِّثين والديمقراطيين والشباب الذين أرادوا تغيير العالم العربي”، كما يتذكر يان إيغلاندرابط خارجي، الذي عمل لعدة سنوات كرئيس لمجموعة العمل التابعة للأمم المتحدة للمساعدة الإنسانية في سوريا.  

“علَيّ أن أعترف بأنني كنت مُتفائلاً عندما بدأت التظاهرات. لقد رأيت ذلك ضمن السلسلة الطويلة من التحولات من الديكتاتوريات والأنظمة الاستبدادية، إلى مجتمعات أكثر ديمقراطية وأكثر توجهاً نحو احترام حقوق الإنسان”. 

لكن، وكما شاهد إيغلاند، فقد استُخدِم العُنف لِفَضّ المظاهرات، كما تضاربت مواقف المعارضة وسادَتها الانقسامات. وعندما قام بزيارة سوريا في عام 2013 “كان تَحَوّل الوَضع إلى حرب استقطاب مريرة واضحاً للغاية.  

حدث جمٌ ومفاجئ

عند وقوع أي صراع، غالباً ما تكون اللجنة الدولية للصليب الأحمر أوَّل وكالة مَعونة تصل إلى أرض الحدث، وآخر من يغادرها. عندما بدأ النزاع في سوريا، كان فابريتسيو كاربونيرابط خارجي، مدير عمليات اللجنة الدولية للصليب الأحمر في الشرق الأوسط حالياً، قد استلم وظيفة جديدة في لبنان. وقد أقَرَّ هو الآخر شعوره بالتفاؤل حول سوريا في البداية، وعدم توقُعه استمرار الصراع كل هذه السنوات على الاطلاق. 

“لم أتوقع ذلك في الأشهر الأولى. لكن ذات ليلة عندما كنت في لبنان، عَبَرَ 60 ألف شخص الحدود إلى البلاد من سوريا بملابس نومهم فقط. كان ذلك حَدَثاً جَمّاً ومُفاجِئاً وصارخاً. حينها قلت لنفسي “حسناً، ها نحن في وضعٍ مختلف الآن”. 

حربٌ بلا حدود

لكن ما مدى هذا الإختلاف؟ على الأرجَح، لم يكن حتى عُمّال الإغاثة الأكثر خبرة يُدركون ذلك في حينه. وكما يشير إيغلاند، فقد أصبح الصراع من أجل سوريا “حرباً بالوكالة، التقت فيها المملكة العربية السعودية وإيران، والسنة والشيعة، وكان الأجانب خلالها مستعدين لمحاربة بعضهم البعض حتى آخر سوري في البلاد”. 

الدمار الذي نَجَمَ عن هذه الحرب التي قاتلت فيها القوات السورية ومؤيدوها المعارضة السورية ومؤيديها بغية السيطرة على كل مدينة في البلاد، كان صادماً لـ كاربوني. 

“قُمت بزيارة سوق حلب”، كما يتذكر، “إنها التاريخ المشترك للإنسانية، بتاريخها الذي يعود إلى آلاف السنين. لقد تم تدميرها بالكامل. كنت هناك مع زملائي السوريين من حلب، وكانوا يبكون”. 

ويضيف قائلاً: “وصلنا إلى مركز المدينة حيث سوق التوابل القديم، وهناك أيضاً لم يَبق أي شيء سوى الأحجار المحروقة والأبنية المُنهارة. لكن رائحة التوابل كانت لا تزال هناك”. 

“الشيء الذي ميز الحرب في سوريا هو انعدام أي حدود، فأنت مُستعد لتدمير تاريخك، وحتى هويتك للوصول إلى هدفك”. 

حصار من القرون الوسطى

وبينما كان كاربوني وزملاؤه يكافحون على الأرض لإغاثة المدنيين المُحاصرين في سوريا، كان إيغلاند، بصفته رئيساً لمجموعة العمل التابعة للامم المتحدة للمساعدة الانسانية، يَسعى لإقناع الأطراف المُتحاربة لإظهار بعض الرحمة في جنيف. 

في عام 2016، وردت أنباء بأن الناس، بمن فيهم الأطفال، كانوا يتضورون جوعاً حتى الموت في بلدة مضايا المحاصرة. 

“لقد تمكنا من إحراز بعض التقدم … لأن الأطفال كانوا يموتون جوعاً. كانت قوافل المُساعدة في طريقها للبلدة في غضون 72 ساعة… لكنها لم تكن كافية. 

وكما يضيف: “الحصار مُمارسة من العصور الوسطى. إنه يعني قيام جيش بتجويع مُعارضيه داخل منطقة حضرية، دون أن يُبالي بتجويع النساء والأطفال أيضاً. هذه جريمة حرب”. 

من غير المُستغرب أن يأمل إيغلاند بإنشاء محكمة دولية خاصة بسوريا لمحاكمة الجُناة المتورطين بجرائم حرب. “لا أحب أن يفلت أي شخص ارتكب جريمة قتل”، كما يقول. 

لكن إيغلاند، وبصفته عامل مُحايد في المجال الإنساني، لا يرى نفسه كشاهد في أي محاكمات تتعلق بجرائم حرب. “يجب ان يحاول العاملون في المجال الإنساني ألا يكونوا جزءاً من عملية يمكن تسييسها بسهولة. لكنني سعيد لوجود أطراف عديدة توثق جرائم الحرب، وآمل ان يخضع مُقترفي الجرائم للمساءلة”. 

وَضعٌ مأساوي

مع استمرار الحرب على الأرض، بات واضحاً أن المجتمع الدولي بدأ يتعب. “لقد بدأ الكثيرون بالتعامل مع هذه الحرب كما لو كانت نوعاً من الكارثة الطبيعية المُستمرة”، يتذكر إيغلاند “لكنها كانت من صُنع الإنسان من الألف إلى الياء”، كما يقول. 

بعد ذلك، ومع انضمام مقاتلي “داعش” الفارّين من الموصل في العراق إلى الجماعات المُتَمرِدة في سوريا، عاود المجتمع الدولي تركيزه على سوريا مرة أخرى. ولم يكن ذلك لإنهاء الحرب بالضرورة، ولكن لِدَحْر التطرف الإسلامي. وبينما كان الجيش السوري المَدعوم من روسيا يقصف أحياء حلب، كان التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة يقصف مدينة الرقة. 

عندما سقط أخر معقل لـتنظيم داعش في النهاية، تم اعتقال آلاف النساء والأطفال، والعديد من زوجات وأطفال المقاتلين الأجانب ووضعهم في مخيم الهول شرق الحسكة. وكما حذرت وكالات الإغاثة مراراً، كانت الظروف في هذا المخيم مروعة، حيث كان الافتقار الحاد إلى المآوى والغذاء والماء، بالإضافة إلى البرد القارس، يعني موت الكثيرين، بمن فيهم الأطفال الصغار. 

كان كاربوني أحد أوائل موظفي الإسعافات الأولية الذين دخلوا مخيم الهول. “كانت هناك أمٌ حالتها واهنة للغاية، كانت تموت، وحولها ستة أو سبعة أطفال يراقبونها. وبصفتي أب، فإن مشهد هؤلاء الأطفال وهم ينظرون إلى أمهم وهي تحتضر أمامهم لن يفارقني طيلة حياتي”. 

من جانبها، شعرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر ووكالات الإغاثة الأخرى بالجَزَع من عدم مبالاة الدول التي يُحتَجَز مواطنوها، بمن فيهم الأطفال، في مخيم الهول. صحيح، أن آباءَ هؤلاء قد يكونوا تحالفوا مع داعش، لكن أن تقوم دول طالما رَوَّجت لحقوق الإنسان بالتخلي عن أطفال قد يواجهون الموت في مخيم مزدحم، هو أمرٌ صادم بالفعل. 

“إنه وضع مأساوي”، يقول كاربوني. “دعونا نتذكر أن القيم الإنسانية هي الحَد الأدنى للحقوق: لا يمكنك قتل الاشخاص خارج أرض المعركة، وينبغي حماية الجرحى، كما يوجد تركيز خاص على الأطفال وعلى النساء. لا شيء خارق في ذلك”. 

“عندما تأتي الدول التي لم تُرَوّج لهذه القيم لعقود فَحَسْب – لا بَل وألقت المحاضرات بشأنها على الحكومات الأخرى حينما تتضرر جراء النزاعات – وتقول بعد ذلك ‘نعم، لقد قُلنا أن الأطفال دون سن 18 عاماً هم ضحايا … ولكنهم ليسوا كذلك في هذه الحالة ‘، فإن هذا مُدَمِّر لمصداقية قواعد الحرب والقيَم التي نُدافع عنها”. 

الفُرصة الضائِعة

وهكذا، فإن الحرب في سوريا – في حال قاربت نهايتها أخيراً – لم تتسبب في خسائر فادحة في الأرواح فحسب، ولكن في انحسار المبادئ الأساسية التي وُضِعت لحماية المدنيين في الحرب، وهو أمر يمكن أن تكون عواقبه ملموسة لعقود قادمة. 

أما إيغلاند، فلا يزال يشعر بالإحباط جَرّاء فشل المجتمع الدولي في التوصل لاتفاق سلام في سوريا، على الرغم من المحاولات المتكررة لتحقيق ذلك. 

“هل كان لهذه الحرب أن تنتهي مِن قَبل”؟ “نعم”، يجيب الرئيس السابق لمجموعة العمل التابعة للأمم المتحدة للمساعدة الإنسانية والشؤون الأمنية في سوريا. “كانت هناك لحظة بالغة الأهمية: خطة كوفي عنان في عام 2014. في تلك المرحلة كان ينبغي على روسيا والولايات المتحدة وإيران وتركيا ودول الخليج أن تقول” نحن بحاجة إلى تنفيذ هذه الخطة”. كانت تلك هي الفرصة الضائعة وسوف ألوم القادة في ذلك الوقت إلى الأبد”. 

إذن، كيف يقيّم إيغلاند أداء الذراع الإنسانية للأمم المتحدة التي يقع مقرها في جنيف؟

 “لقد أخْفَقَت من حيث القُدرة على حماية المدنيين من ويلات الصراع. هذا فَشَل مروع لنا جميعا”. 

“لكن هذه المجموعة الإنسانية استطاعت إنقاذ الملايين من حيث عدد الأشخاص الذين حصلوا على الخُبز اليومي والخدمات الصحية. لذا دعونا نتذكر وجود عشرات الآلاف من العاملين في المجال الإنساني، معظمهم من السوريين الذين كانوا يعملون لصالح السوريين، والذين تم تنسيق نشاطهم من قبل العاملين في المجال الإنساني بجنيف. وفي اعتقادي، فإننا يجب أن نفخر بذلك”، كما يقول مُختتماً.


 تقوم swissinfo.ch بنشر آراء حول مواضيع مختلفة، سواء حول قضايا سويسرية أو مواضيع لها تأثير على سويسرا. يرمي اختيار المقالات إلى تقديم آراء متنوعة بهدف إثراء النقاش حول القضايا المطروحة. تعبّر الأفكار الواردة في هذه المقالات عن آراء مؤلفيها فقط ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر swissinfo.ch. 

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية