“تضليل” الدِّماغ.. طريقة مبتكرة لمعالجة الأمراض العصبية
يجتهِد عدد من المختبرات والشركات السويسرية الناشئة المُختصّة في مجال الأبحاث المتطوِّرة للدِّماغ البشري وعِلم الأعصاب، في إيجاد حلول جديدة متفوِّقة التِّقنية لمُساعدة المرضى، على الرغم من النّقص العالمي المُحبط في العلاجات المتاحة لإضطرابات الدماغ.
الطريق المؤدّي إلى أسفل الوادي من قمّة صخرة “روشيه دو لياز” المُطلة على نهر الرون في فرنسا، يبدو طويلاً. وعلى الرغم من معدّات التسلّق والحبل المربوط بي، لا أشعر بالكثير من الأمان وأنا أجلس فوْق المنحدر الصخري الشاهق، وصوت صفير الرّيح يدوي في أذني.
على يميني، ألمح أحد المتسلِّقين وهو يهبط في إتجاهي، مؤشراً للتوثق من أني على ما يرام. وبدوري، أتحرّك نحو الأمام وألوِّح له بيدي.
في تلك اللّحظة فقط تذكّرت أن كلّ ما يحدث لي، ليس حقيقياً في الواقع، وبأني كُنت أرتدي سمّاعات رأس وأذن بتِقنية الواقع الإفتراضي. وبدلاً من أن أكون مربوطاً إلى جِدار صخري، كُنتُ أقِف في الواقع داخل “آلة إستبدال الواقِع”، المكوّنة من حُجرة عرض صغيرة في ‘منتدى الدماغ والأعصاب 2015’رابط خارجي، وهو مؤتمر دولي لعلم الأعصاب، تمّ تنظيمه خلال الفترة ما بين 29 مارس إلى 1 أبريل، في مركز سويس تك للمِعارض، التابع للمعهد التقني الفدرالي العالي في لوزان.
هذا المشروع التّجريبي الجديد، الذي أقوم باختباره والمسمّى ‘رياليزم’ RealiSM، يجمع بين علم الأعصاب الإدراكي وتِقنية الواقع الإفتراضي، وهو يهدِف إلى دراسة الذّاكرة والإدراك والفضاء القريب – الذي يكون في متناول يَد الشّخص – من أجل الإستخدامات السَّريرية والعِلاجية، كما يوضِّح برونو هيربيلين، رئيس المشروع والباحث في المعهد التقني الفدرالي العالي في لوزان.
“نحن نعمل على المُحَفِّزات التي تسمَح للدِّماغ ببناء وجودنا في الفضاء، حتى تبدو التجربة طبيعية ولكي يتسنّى لك نِسيان كل ما يدور خلفك من عمل”، بحسب هيربلين.
المزيد
عندما تتلاشى حياة بأكملها
مشاهِد التسلّق البانورامية التي كنت أعيشها وأنا أرتدي سمّاعات رأس بتقنية الواقع الإفتراضي، كانت مُرَكَّبة من لقطات حقيقية تمّ تسجيلها مُسبَقاً باستخدام 16 كاميرا من نوع “GoPro” مُثبتة على حامل ثلاثي القوائِم (ترايبود) خاص. كذلك تم إلتِقاط الأصوات الحيّة لذلك المُحيط وتسجيلها باستخدام أربعة أزواج من مُكبِّرات الصوت.
فضلاً عن ذلك، تمّ تجهيز سمّاعة الرأس بكاميرا صغيرة مُجسَّمة تُصَور يديك وقدميك وكافة حركات جسمك، وتجعلك تنغمِر جسديا في المشهد وهو يُعرَض مرة ثانية في الوقت الحقيقي. وهكذا يتعرّض عقلك للتّضليل والإعتقاد بأنك موجود هناك على حافة الهاوية بالفعل.
وقد يبدو كل هذا مُمتِعاً جدّاً بالنسبة لعشّاق الألعاب الإلكترونية، بَيْد أن فريق مشروع “رياليزم” يأمل بأن تكون له إستخدامات سريرية عملية أيضاً. وكما يزعم الفريق، سيُتيح استخدام تِقنيات العِلاج السلوكي المعرفي للمتخصِّصين، إمكانية معالجة أمراض القلق واضطرابات المزاج أو الإجهاد النفسي اللاّحق للإصابة / الصّدمة. ومن المقرر توفير هذه التكنولوجيا في غضون العاميْن المقبلين، لكي يتسنّى تصنيع/تصميم المشاهِد التجريبية، حسب الطلب.
“نحن كبَشَر لسْنا مزوَّدين بشبكة أسلاك ثابتة، ويمكن للتّجارب أن تغيِّر هذا التّشابك العَصبي في أدمغتنا”، كما يوضّح الدكتور جميل العماد، الرئيس المشارك لمشروع “ريالِيزم”.
إعادة تأهيل الشبكة العصبية
بدورها، قامت شركة ‘مايند مايز’ MindMazeرابط خارجي السويسرية أيضاً بِدَمج تِقنية الواقع الإفتراضي مع عِلم الأعصاب. وفي المجال نفسه، ابتكرت الشركة المتفرِّعة من المعهد التقني الفدرالي العالي في لوزان العديد من التطبيقات، بضِمنها تطبيق ‘مايند بلاي’ MindPlay، وهو مُنتج غيْر مُكلف لإعادة التأهيل، يهدِف إلى مساعدة مرضى السّكتة الدِّماغية وإصابات الدّماغ، على استخدام أطرافهم مرّة ثانية. وقد عُرِضَت هذه التقنية أيضاً في ‘منتدى الدماغ والأعصاب 2015’.
وفي هذه التقنية، يتِم توجيه المرضى خلال سلسلة من التمارين التي يُمكِنهم ممارستها في المستشفى أو في المنزل، بينما تقوم كاميرا مصنوعة خصِّيصا بتتبّع تحركاتهم. وباستطاعة المُصاب بجلطة في المُخّ رُؤية صورة مُجَسَّدة لأطرافِه غير المُتأثرة على الشاشة وهي تؤدّي بعض المهام، مثل التسديد نحو هدف ما. وفي وقت لاحق، تُعكَس الصورة المُجَسَّدة ويتِم خِداع الدِّماغ للإعتقاد بأن الطّرف المُتضرِّر هو سليم في الواقع.
ووِفقاً لتيج تادي، الرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك لشركة ‘مايند مايز’، يؤدّي هذا إلى “شكل من أشكال إعادة التنظيم أو التفعيل بين مناطق مُختلفة من القشرة الدِّماغية، وهو ما نقوم باستغلاله وقياسه، ومِن ثَمَّ تخصيصه وتدْريبه لتحقيق أقصى قَدر لهذه المُرونة”.
وتعمل هذه التمارين على تمكين إعادة تنشيط الوصلات العصبية بيْن المخ والأطراف التّالفة في وقت مبكّر، وهو ما يؤدّي في كثير من الحالات إلى تأهيل الذِّراعين أو الساقين العاجِزة عن الحركة، وجعلها قادِرة على ذلك مرّة ثانية.
“إن الأسابيع الثلاثة الأولى بعد السّكتة الدماغية، هي نافذة الفُرصة الذهبية. وقد أظهرت دراساتنا في مستشفى جامعة لوزانرابط خارجي (CHUV) وفي سيون (كانتون فالي)، بأنه بالإمكان المُباشرة بإعادة التأهيل بعد مرور أسبوع واحد على الإصابة بالسكتة الدِّماغية”، كما قال غانغادار غاريبيلّي، العالم في شركة ‘مايند مايز’.
وبالإضافة إلى ما سبق، شهِد هذا التجمّع العِلمي في مدينة لوزان أيضاً، عَرض نموْذج أوَّلي لجهازٍ يعمل على المساعدة في تشخيص نوْبات الصَّرَع والتنبُّؤ بها.
ويجري المزيد من العمل على هذا الجهاز، الذي تم تطويره من قِبل شركة ‘نويرو برو’ NeuroProرابط خارجي للبحوث الطبِّية، التي يقع مقرّها في زوريخ، في مركز الصّرع السويسريرابط خارجي. وسيُعمد إلى تنفيذ الاختبارات السريرية بواسِطته في وقت قريب، كما يُفترَض أن يكون جاهِزاً للبيْع في غضون عاميْن.
ولم تمثل الأجهزة التي عرضتها الشركات الآنفة الذكر، سوى بضعة تقنيات ثورية ناجِحة في عِلم الأعصاب، من بيْن عروض الشركات الفرعية والناشئة الثلاثين (30)، التي كانت حاضرة في المنتدى.
المزيد
جهاز جديد لاستباق نوبات الصرع
عقول كبيرة
ممّا لا شك فيه أن مجال عِلم الأعصاب يزْدهِر على نِطاق عالمي. واليوم، يُمكن العثور على حركة عالمية من المُبادرات الكبيرة في هذا المجال، بضمنها مبادرة “براين” BRAIN (أبحاث الدِّماغ عبر تكنولوجيا الأعصاب المبتكرة) في الولايات المتحدة، ومشاريع كبيرة أخرى تُحاوِل سبْر أغوار الدِّماغ البشري واكتِشاف أسراره في كلٍّ من أستراليا والصين واليابان وإسرائيل.
وفي سويسرا، تُعتَبر منطقة بًحيرة ليمان (يُسميها البعض أحيانا بحيرة جنيف) وبالأخص المعهد التقني الفدرالي العالي في لوزانرابط خارجي، لاعباً رئيسياً في مجال عِلم الأعصاب. وكان هذا المعهد هو المُنسِّق الرئيسي لمشروع الدِّماغ البشري المُمَوَّل من قِبل الإتحاد الأوروبي، قبْل إعادة الهيكلة الأخيرة، التي تَحوَّل المشروع إثرها إلى المركب الجامعي للتكنولوجيا الحيويةرابط خارجي في جنيف. ولكن، ومن خلال عمل أكثر من 100 شخص ينتمي للمعهد في هذا المشروع، فإنه ما زال يُمثل قوّة دافِعة كبيرة في هذا المجال.
وخلال منتدى الدِّماغ وعِلم الأعصابرابط خارجي، عبَّر باتريك إيبيشر، رئيس المعهد التقني الفدرالي العالي في لوزان، عن ترحيبه بهذه التقنيات السويسرية الجديدة الهادِفة إلى مساعدة المرضى الذين يُعانون من مشاكِل مُرتبطة بالدماغ، وقال: “إن التقدّم الأخير في مجالات التكنولوجيا والهندسة والتصور، يُتيح لك النّظر إلى الدماغ بطريقة مختلفة، وجَمْع بيانات لم يكُن الحصول عليها مُمكناً مِن قبل”.
بيْد أن إيبيشر لم يتوانَ في حديثه المُوَجّه إلى كبار العلماء المجتمعين في هذا المنتدى، عن طرح رسالة تذكير واضحة وصريحة حول الأولويات: “في أحد الجوانِب، نجد هذه المبادرات الكبيرة والمُذهلة الخاصة بالدّماغ البشري، ولكن كيف يمكننا في نفس الوقت الإستِفادة من هذه المعرفة الجديدة لتطوير علاجات جديدة؟ فمع كل التقدّم الكبير المُحرَز في فهْم الدماغ البشري، لم يُتَرجَم ذلك إلى علاجات جديدة بنفس الأسلوب”.
لا عِلاج حتى الآن
وبالرغم من هذه التقنيات المستقبلية لمساعدة الأشخاص الذين يُعانون من الصَّرع والسكتة الدماغية وإصابات الدماغ واضطرابات المزاج، إلّا أن أيّ علاجات جديدة تبقى بعيدة المنال.
وفي هذا السياق، كانت مجموعة الدول الصناعية الثمانية الكبرى قد حَدَّدَت هدفاً مُتفائلاً، مُمَثلاً بالعثور على دواء أو عِلاج فعّال للخرف – وهو التدهور المُستمِر في وظائف الدّماغ بسبب إصابته بالمرض والذي يُسفِر عن إضطراب في القُدرات الإدراكية – بحلول عام 2025. وعلى الرغم من التقارير الواردة هذا الشهر حول عثور باحثين أمريكيين على سبب مُحتمَل لمرض الزهايمر، الذي يؤثِّر على أكثر من 60% من المُصابين بالخرف، لكن العلاج لم يتوفّر حتى الآن.
وعلى عكس أمراض القلب والسرطان، التي شهدت خطوات هائلة في تطوير الأدوية من قِبل الشركات الدوائية الكُبرى، لم تتِم الموافقة على أيّ علاجات جديدة لمُداواة مرض الزهايمر في العشرية الماضية. وفي الأعوام بين 2002 و2012، فشلت أو أوقِفَت 99.6% من التجارب المُكلِفة الهادِفة إلى تطوير عقاقير تهدِف إلى مَنْع وعلاج أو تحسين أعراض مرض الزهايمر، بالمُقارنة مع 81% لمرض السرطان.
ويُجادل الخبراء أن السّبب في ذلك، قد يعود إلى إجراء هذه الإختبارات بعد فوات الأوان، مع مُصابين كان المرض قد تطوّر لديهم كثيراً بالفعل. ومع إستهداف العلماء لجوانب مختلفة من هذا المرض، إلّا أن عقار ميمانتين Memantine الذي يُستخدَم لتحسين الذاكرة، كان الوحيد الذي أثبت فعاليته. وفي الوقت الراهن، تقدم الوقاية الطريق الأوضح للمُضِي قُدماً. وكما يقول العلماء، ما زال الجهْل حول مُسَبّب مرض الزهايمر باقياً، إلى جانب طبيعته المُتباينة وصعوبة تشخيصه وتقدمه البطيء.
وكما أشار إيبيشر: “عندما ننظُر إلى عدد الأدوية التي وافقت عليها إدارة الأغذية والعقاقير في الولايات المتحدة (FDA) أو وكالة الأدوية الأوروبية (EMA) في مجال عِلم الأعصاب، فإننا نُصاب بالإحباط”.
الزهايمر
وِفقاً للمنظمة الدولية لمرض الزهايمر، من المُتَوَقَّع أن تزداد حالات هذا المرض، الذي يُمثل 60% من جميع أشكال الخرَف، بالإضافة إلى أنواع الخرَف الأخرى، بثلاثة أضعاف مع حلول عام 2050 لتبلغ نحو 135 مليون في جميع أنحاء العالم، الأمر الذي يضع عِبئاً كبيرا على العديد من المجتمعات.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.