
الرصيد الاجتماعي… نموذج صيني وتوجُّس أوروبي

يثير نظام الرصيد الاجتماعي الصيني مخاوف متزايدة حول مستقبل الخصوصية والمساواة في أوروبا. وبينما تعمل سويسرا على دراسة سبل الوقاية من تسلّل مثل هذا النظام إليها، يشير خبراء إلى بداية ظهور أنظمة شبيهة بصور غير معلنة، حتّى في الدول الديمقراطية.
تروق لبعض الناس فكرة العيش في مجتمع يكافئ السلوكات الحميدة؛ كالالتزام بقواعد المرور وأخلاقياته، واتباع أسلوب حياة صحي. ولكن تقلق فكرة الرصيد الاجتماعي ذاتها البعض الآخر. فحتّى النظم المعتمدة على المكافآت، دون العقاب، قد تقود إلى تهميش الأشخاص أصحاب النقاط القليلة.
وقد نبَّهت بعض التجارب الصينية، وبعض أفلام الواقع المرير (“الديستوبيا”)، وعي فئات عديدة إلى هذا الموضوع، الذي يناقشه الناس تحت مسمّيات متعدّدة. فتخشى الدوائر الناقدة للحكومة من “النكز” الحكومي، بينما يسمّيها البعض الآخر نظم الرصيد الاجتماعي، أو المكافأة، أو التقييم الاجتماعي.
وفي ظلِّ تعدّد التسميات والمقاربات، تؤكِّد بعض الأصوات الخبيرة ضرورة التمييز بين التحفيز المشروع، والمراقبة المقنّعة. ويحذّر الباحث يوهان روشيل من استنساخ النموذج الصيني دون تمحيص، قائلًا: “لا ينبغي أن تكون الصين المعيار المحدّد لما نريده في مجتمعات أوروبا الغربية”. ويدرس روشيل، مع فريق بحثي، هذا الموضوع لصالح المؤسّسة السويسرية، لتقييم تأثيرات التكنولوجيا (TA-Swiss). وسوف تعرض المؤسّسة نتائج الدراسة عام 2026.
1- هل تشكّل أنظمة الرصيد الاجتماعي، حتى غير العقابية منها، تهديدًا للديمقراطيات؟
2- هل تختلف السياسات السويسرية عن سياسات الاتحاد الأوروبي في التعامل مع هذه النظم؟
3- متى تتحوّل الحوافز الطوعية إلى التزامات تُقوّض حرية الأفراد؟
ألمانيا المستقبل: رصيد اجتماعي وديمقراطية مباشرة
في عام 2020، أمرت وزارة البحث الألمانية بإعداد دراسة استشرافيةرابط خارجي، لسيناريو ترسيخ نظام يشبه “نظام الرصد الاجتماعي” في ألمانيا، بحلول ثلاثينات القرن الحالي.
وجاء في الدراسة أنّ “تحسين الرعاية الحياتية القائمة على بيانات”، قد يؤدي إلى رفع جودة الحياة في ألمانيا. فيمكن لنظام النقاط خدمة السياسة، باعتباره “وسيلة للتوقّع، ولتحديد الضرائب، بهدف تحسين الاقتصاد، وتحقيق الأهداف المنشودة”.
وبحسب الدراسة المستقبلية، يجب فهم نظام الرصيد الاجتماعي في إطار الديمقراطية التمثيلية الألمانية، ولكن مع اعتماد آليات الديمقراطية المباشرة، كما هو الحال في سويسرا.
وفي هذا السيناريو، يمكن للديمقراطية “الرقمية السائلة” الجديدة، وضع “قواعد عمل” للنظام.
وسيتعيّن على السكان، باستخدام المساعدة الرقمية، إعادة تقييم السلوكات المستحقّة للمكافأة، بشكل دوري؛ اللياقة؟ أو نظام الحياة البيئي؟ أو الامتناع عن شرب الكحوليات؟ وسيكون على الجميع المشاركة في اتخاذ القرار حول النظام الذي سيقنّن الحياة، ويكافئ أفراد المجتمع.
اقرأ.ي هذا المقال حول كيفية تأثير الأدوات الرقمية المدعومة بالذكاء الاصطناعي على الديمقراطية المباشرة:

المزيد
التوائم الرقمية والديمقراطية: هل يقف العالم على أعتاب ثورة في صناعة القرار السياسي؟
غير أن الدراسة المستقبلية، التي طرحت خمسة سيناريوهات أخرى لعام 2030، لا تغفل عن الجوانب السلبية. فقد يؤدي نظام الرصيد الاجتماعي، إلى “مشكلات جديدة”، من بينها صعوبة تجاوز وضع اجتماعي متدنٍّ. فالشخص الحاصل على نقاط منخفضة في مرحلة ما، قد يظلّ عالقًا ضمن “الفئات المتخلّفة عن الركب دائمًا”.
الاتحاد الأوروبي يحظر نظام الرصيد الاجتماعي
ومنذ صدور هذه الدراسة عام 2020، تقلّصت احتمالية تطبيق نظام الرصيد الاجتماعي. ففي عام 2024، منع الاتحاد الأوروبي استخدام خوارزميات الذكاء الصناعي، التي تخدم أهداف التقييم الاجتماعي. أمّا في سويسرا، فلا يزال هذا المجال دون تشريع مماثل.
ويرحّب آدم نايت، خبير اللغة الصينية من جامعة لايدن، بهذا الحظر، ويرى انسجام القرار مع القيم الأوروبية، لتعارض التقييم الاجتماعي مع مبادئ الخصوصية، والمساواة، والإجراءات القانونية السليمة، ويحذّر من عدم اكتفاء هذا النوع من النظم بالمراقبة، بل سيمتدّ إلى “الاضطهاد التلقائي”، وسيختزل الأفراد في حسابات خوارزمية، تُقيّم سلوكهم وتحدّد فرصهم.

أكثر من 50 قانونًا بشأن الرصيد الاجتماعي في الصين
في الأثناء، ترسخ هذا النظام على المستوى الوطني في الصين. “ففي السنوات الأخيرة، تطور نظام الرصيد الوطني خِلسةً، من بعض التجارب المحلية والمشروعات التجريبية المُذهلة، إلى التنميط القانوني والتنفيذ البيروقراطي”، مثلما يبين نايت.
ويرى نايت أنّ عام 2022 شكَّل منعطفًا مهمًّا: “فمنذ ذلك الحين، ركزت السلطات على وضع آليات حساب الرصيد في اللوائح الوطنية. بل هناك حاليًَا ما يربو على 50 قانونًا، تشمل أحكامًا خاصّة بالرصيد الاجتماعي”.
وبينما لا تزال القوائم السوداء محورية، أفسحت الإصلاحات الجديدة المجال لإجراء “إصلاحات لنظام الرصيد”، مراهنة على المكافأة وإعادة التأهيل. أمّا المشروعات الرائدة، مثل تسجيل استهلاك الكحوليات والتدرب على الإقلاع عنه، فقد “أُلغيت تدريجيًّا”. وتحوّل الاهتمام من “الانضباط الأخلاقي” إلى تحسين الأداء الاقتصادي.
وعلاوة على ذلك، شملت الإصلاحات إرساء “بنية تحتية تنفيذية”، بدلًا من الاعتماد على تقييم واحد. وباتت بيانات المخالفات تصبُّ في “شبكة واسعة من العلامات الحمراء”، التي قد تحرم الشخص المعني من الوصول إلى الأرصدة، والعقود، والوظائف أو الخدمات العامة.

ويختزل نايت الوضع بقوله: “ما يتبقى في النهاية هو أداة سلطوية قائمة على البيانات، لممارسة الحكم بناءً على رؤية واضحة. ومخالفة القواعد، تترك أثرًا واضحًا ومدوَّنًا”.
ماذا عن سجل التحصيل في سويسرا؟
في المقابل، يشير نايت إلى “الملف التعريفي الخوارزمي” الذي يطبقه الاتحاد الأوروبي. وبالتالي، يطرح المنع الصادر عن الاتحاد تساؤلاً حول طريقة التعامل مع هذه الملفات. “فمنطق مكافأة الثقة، ومعاقبة المجازفة” يوجد “في الكثير من النظم الغربية كذلك”.
وكذلك، يشير نايت إلى نماذج التقييمات لدى شركات، مثل “آير بي إن بي” (AirBnB)، و”أوبر” (Uber)، و”يلب” (Yelp)، حيث يكون للتقييم ونقاط الرصيد أثر ملموس، ويعتقد وجود أنظمة حكومية مشابهة: “ففي سويسرا، على سبيل المثال، يعلن سجلّ تحصيل الديون عن كلّ فاشل.ة في تسديد الغرامات أو الفواتير”. ولأنّ القيد في هذا السجلّ قد يؤدّي إلى منع الشخص من الحصول على شقّة، أو “حتّى” على وظيفة، لا تختلف مثل هذه القائمة السوداء كثيرًا عن نظام الرصيد الاجتماعي.

فالسؤال الفيصلي، بالنسبة إلى خبير اللغة الصينية، ليس ما إذا كان هذا يُشبه ما يحدث في الصين، بل “كيف يزداد أثر البيانات، وسجلّات السلوك في الوصول إلى الخدمات على مستوى العالم، وما هي الإجراءات الأمنية المتاحة لحماية الحقوق الفردية”.
كيف يمكن معرفة الرصيد الاجتماعي؟
يقول الخبير السويسري يوهان روشيل: “يكمن التحدي في معرفة الرصيد الاجتماعي”. وفي هذا الصدد بالذات، يسعى المشروع البحثي الذي تجريه المؤسسة السويسرية لتقييم تأثيرات التكنولوجيا، إلى الإسهام في مسألتين: ما هو تعريف الرصيد الاجتماعي، وكيف يمكنه الكشف عنه؟
وفي هذا السياق، يوضّح روشيل، قائلًا: “في لوائح الاتحاد الأوروبي بشأن الذكاء الاصطناعي، يندرج التقييم الاجتماعي ضمن الاستخدامات الممنوعة، إلّا أنّه ما تزال هناك حاجة إلى تعريف واضح لما يشمله هذا التقييم تحديدًا”. إذ يعتقد هذا الحقوقي والفيلسوف كشف الوقائع القضائية القادمة عمّا يشمله حظر الاتحاد الأوروبي.
ويرى روشيل، أن الهيئات الحكومية أو الشركات الخاصة “قد لا تدرك ما إذا كانت تُطبِّق نظام الرصيد الاجتماعي”، ما لن يتغير في المستقبل، ويخشى من غياب الحوار العلني، و”من تسلّل (هذا النظام) تحت غطاء المشاريع التجريبية”.
هل نحتاج إلى حق إنساني جديد في العصر الرقمي؟ اقرأ.ي هذا المقال لمعرفة كيف نجح “الحق في السلامة الرقمية” في شقّ طريقه داخل كانتونَين سويسريين.

المزيد
كيف أفسح النظام الفدرالي السويسري الطريق لولادة حق رقمي جديد؟
وعلاوة على ذلك، فإنّ أكثر المجالات حساسية هي تلك المرتبطة بالصالح العام. ويذكر، على سبيل المثال، أحد البرامج الحاسوبية، التي تصدَّرت عناوين الصحف قبل عدّة سنوات في سويسرا. فمن خلال هذا البرنامج، كان يمكن لأعضاء هيئة التدريس الإبلاغ عن طلابهم وطالباتهم بدواعي التعرّض لخطر التطرّف الإرهابيرابط خارجي. وفي الأثناء، أغلقترابط خارجي الجهة المطوّرة الموقع الإلكتروني لهذا البرنامج.
مجالات تشكّل خطرًا: المواصلات والبيئة والصحّة
إلى جانب الأمن العام، يرى يوهان روشيل انطواء مجالات مثل المواصلات، والبيئة، والصحة على مخاطر أيضا. ويستشهد بمقترح طرحه فريدريش ميرتسرابط خارجي، المستشار الاتّحادي الألماني الحالي، يقضي بتخفيض اشتراكات التأمين الصحي بنسبة 10% لكلّ من يتيح بياناته الصحية لأغراض التقييم. وبحسب روشيل، تكون هذه المقترحات غير مقلقة في البداية، بسبب طابعها الطوعي. لكنّه يلفت النظر إلى فقدانه معناه عند تحوّل العرض الاختياري إلى التزام فعلي، كما يحدث حين تصبح كلفة عدم المشاركة مرتفعة اجتماعيًّا أو ماديًّا.
وقد أثار مقترح ميرتس الكثير من النقد، مطلع عام 2025. وفي سويسرا أيضًا، دار نقاش برلماني حول الموضوع، ما اعتبره روشيل “آلية حماية” من اعتماد تدريجي غير معلن.
وفي هذا السياق، وجّه توماس بورغهير، النائب بمجلس النواب عن حزب الشعب السويسري (يمين محافظ)، استفسارًا إلى الحكومة الفدرالية عام 2020، بشأن موقفها من “محفّزات السلوك، والحيل النفسية “الصغيرة” التي يمارسها الاقتصاد السلوكيرابط خارجي“، ومدى انسجامها مع مبادئ الديمقراطية ودولة القانون. وردّت الحكومة بأنّ هذه “النكزات” هي بديل عن الحظر، وأنّ “معارف الاقتصاد السلوكي ومناهجه… قد تؤدي دورًا في بعض المجالات”.
أمَّا فريق الذي أعدّ الدراسة الألمانية المستقبلية، فأصبح اليوم أكثر تشككًا بتأثير آليات الديمقراطية المباشرة. وأفاد ميشائيل أستو، المشارك في إعداد الدراسة، بأن الهدف من الجمع بين نظام المكافآت والديمقراطية المباشرة هو حماية النظام من الاستغلال، وتقليل خطر الانقسام المجتمعي، وضبط النظام ليوائم “الاحتياجات المجتمعية المتغيرة”.
ويبدو أنّ أستور ينظر اليوم إلى هذا السيناريو بعين أكثر انتقادًا: “ففي ضوء اتجاه الكثير من الديمقراطيات نحو اليمين، يتزايد التشكّك بالرقابة الاجتماعية ذات الدوافع الشعبوية، أو العنصرية، أو أيّ دوافع أخرى، الممكن تطبيقها عبر مثل هذه الأنظمة”. ويقرّ أستور بأن الأثر الإيجابي الذي كان الفريق يأمل في تحقيقه من خلال الطابع التشاركي للنظام، بات يبتعد أكثر فأكثر عن الواقع.
تحرير: دافيد أويغستر
ترجمة: هالة فرَّاج
مراجعة: ريم حسونة
التدقيق اللغوي: لمياء الواد
اقرأ.ي أيضًا مقالنا عن أشخاص يتبنون مبدءًا يرفض استخدام الهاتف الذكي

المزيد
لماذا يرفض البعض في سويسرا اقتناء هاتف ذكي؟

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.