مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

رحيل العربي بلخير.. “صانع الرؤساء” و”خازن الأسرار” في الجزائر

العربي بلخير، في صورة من الأرشيف التقطت له رفقة الفريق محمد لعماري، رئيس أركان الجيش الجزائري السابق AFP

لفتت مشاركة وفد مغربي رسمي رفيع المستوى في مراسم تشييع جثمان الجنرال العربي بلخير، السفير الجزائري بالرباط أنظار المراقبين داخل الجزائر وخارجها. وقد أوفد الملك محمد السادس اثنين من كِـبار مستشاريه ووزير خارجيته لتقديم التّـعازي لعائلة الرّاحل والمشاركة في جنازة "صانع الرؤساء" والشخص الذي طبع جزائر ما بعد بومدين باسمه.

ويمكن القول أن برقيتي التّـعازي التي بعث بهما العاهل المغربي إلى كل من الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة وعائلة اللواء بلخير، حملتا رسالة واضحة تفيد بأن ما كان يربط الراحل بالمغرب الأقصى أعمق من مهمّـته كسفير لديه، خاصة وأن هذه المهمة جاءت بعد مشاركة الملك محمد السادس في القمة العربية التي احتضنتها الجزائر عام 2005 وما تلاها من انفِـراج نِـسبي قصير الأمد بين البلدين.

علاقات متينة مع الرباط

وإذا كان العربي بلخير قد شغل منصب سفير للجزائر لدى المغرب منذ 2005، فإن علاقاته المتِـينة مع الرباط وكِـبار مسؤوليها، تعود إلى بداية الثمانينات، حين كان مديرا لديوان الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد ومهندس أول قمة جزائرية – مغربية منذ اندِلاع نزاع الصحراء الغربية (في عام 1975) وما تبِـعه من قطيعة دبلوماسية وإغلاق حدود بين الرباط والجزائر.

وإذا كانت تلك القمة، التي عُـقدت على حدود البلدين برعاية سعودية لم تُـسفر إلا عن لقاء سرِّي تبِـعه بين مسؤولين مغاربة كبار وقادة من جبهة البوليساريو، التي تدعمها الجزائر وتسبّـبت في غضب الرئيس بن جديد على بلخير، لِـما عقده من آمال يُـمكن أن تنجزها القمة، إلا أنها كانت بداية الخيْـط الذي ربط بلْخير مع مسؤولين مغاربة كِـبار، مثل أحمد رضا غديرة، مستشار الملك الراحل الحسن الثاني وإدريس البصري وزير داخليته.

كان بلخير، طِـوال سنوات رئاسة بن جديد (1978 إلى 1992)، أذْن الرئيس وخازن أسراره ورسوله، حيث لا يُـريد للأضواء أن تكون حاضِـرة. وإلى جانب علاقات الجزائر مع واشنطن وباريس والرياض، كان بلخير يدبِّـر العلاقات مع الرباط، والتي كان عُـنوانها نزاع الصحراء الغربية، الذي تقول الجزائر إنه نزاع مغربي – صحراوي، ويقول المغرب إنه نزاع مغربي – جزائري، لكن في كل الحالات تبقى الجزائر الرّاعي الأول والمسؤول عن جبهة البوليساريو ومفتاح حلّ النِّـزاع المتفجِّـر منذ عام 1975، حين كان العربي بلخير لا زال ضابِـطا مغمورا في الجيش الجزائري.

صداقة واضحة

صداقة بلخير مع المسؤولين المغاربة خلال عهْـد الرئيس بن جديد، حضرت بوضوح من خلال دوره في تشجيع مُـفاوضات حول الحُـكم الذاتي في الصحراء الغربية، قادها عن الجانب الجزائري محمد شريف مساعدية، الرجل الأول في جبهة التحرير الوطنية الحاكم آنذاك، وأحمد الطالب الإبراهيمي، وزير خارجيتها. وعن الجانب المغربي، الراحلين أحمد رضا غديرة وعبد اللطيف الفيلالي، وزير الخارجية، كادت أن تصل إلى نهاية إيجابية، لولا تمسُّـك الجزائر برفْـع منطقة الحُـكم الذاتي (التي كان يُفترض أن تقام في الصحراء الغربية) علَـما مغربيا بإشارة متميِّـزة.

ولعِـب بلخير أيضا دورا أساسيا في هندسة القمّـة الثانية بين الحسن الثاني وبن جديد، برعاية سعودية أيضا وعلى حدود البلدين في ربيع 1987، وفي إعادة العلاقات الدبلوماسية وفتح الحدود بين البلدين قبيل قمة الجزائر العربية في يونيو 1988 وما تمخّـض عنها مغاربيا من قمّـة زيرالدة، إلى إقامة اتحاد المغرب العربي في فبراير 1989، الذي لم يكتب له استمرار حيويته، لانشغال الجزائر بحربها ضدّ الجماعات الأصولية المتشدِّدة والعتَـب الجزائري على المغرب لموقفه من هذه الحرب وما تبِـعها من أزمة صيف 1994 وإغلاق مستمِـر إلى حدِّ الآن للحدود البرية بين البلدين، ليغيب بعدها العربي بلخير عن واجِـهة العلاقات مع الرباط، قبل أن يعود من جديد يحمِـل أوراق اعتمادِه سفيرا لبلاده ويُـمضي فيها ثلاث سنوات شِـبه بيضاء، لم يكشِـف سببها، إلا ما ردّدته بعض الأوساط، من أنه “يُحمّل مسؤوليتها للمسؤولين هنا وهناك”.

روايات متعددة ومتناقضة

ورغم مُـضي أربع سنوات ونصف على تعيينه في منصبه في الرباط، فإن الراويات لأسباب تعيينه سفيرا لدى المغرب متعدِّدة ومتناقِـضة أحيانا، لكنها تتمحوَر بين العَـلني منها، وهي رغبة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بوجود رجُـل قوي قريبا منه سفيراً لدى الملك محمد السادس، وحرصه على إبعاده عن قصر المُـرادية، بعد تصاعُـد الخلاف بين السعيد، شقيق الرئيس والعربي بلخير، صانع الرؤساء بالجزائر والوحيد الذي كان قادِرا على ربط الصِّـلة بين قصر المُـرادية وقادة الجيش، المؤسسة ذات الدّور الفاعِـل والقوي منذ استقلال البلاد عن فرنسا في يوليو 1962.

ويمكن القول أن العربي بلخير أصبح إسما لامِـعا في السياسة الجزائرية، حين نجحت اتِّـصالاته في شتاء 1979 في تبديد آمال كلٍّ من عبد العزيز بوتفليقة، وزير الخارجية آنذاك، والذي كان محسوبا على المُـعسكر الغربي، وصالح اليحياوي، أمين عام جبهة التحرير، والمحسوب على الخطّ التقدّمي العروبي من دخول قصر المُـرادية خلَـفا للرئيس هواري بومدين، وأتى من موقعه كمدير للمدرسة العسكرية ”انيتا” بصديقه وابن منطقته الشاذلي بن جديد، الذي لم يكن يحلُـم بها، لكنه قبلها بعد أن ضمَـن له بلخير تأييد كِـبار الضبّـاط، ومن بينهم قاصدي مرباح، رجل المخابرات القوي.

انخفاض أسهم الجنرال

وفاءً للرجل، اختاره الرئيس بن جديد أمينا عاما لمجلس الأمن القومي ثم مديرا لدِيوانه، ليُـصبح أمينا عاما لرئاسة الجمهورية، وأصبح تاليا الرجل القوي، بفضل التفويض الذي منحه إياه بن جديد في إجراء اللِّـقاءات مع رؤساء الدول والإشراف على الصّـفقات الكُـبرى بين الجزائر والمؤسسات الاقتصادية العالمية، وفي دراسة الملفات الحساسة، والرجل الذي قرر صناعة رجال السلطة وإنهاء مهامِّـهم في مؤسسة الجيش والبرلمان والحكومة وإدارة الدولة.

وفي اللّـحظات الحرجة، اختاره بن جديد وزيرا للداخلية ليُـشرف على الإنتخابات التشريعية (ديسمبر 1991) التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ بأغلبية ساحقة، ثم ليُـقرر قادة الجيش ومعهم بلخير إنهاء المسلسل الانتخابي وإبعاد بن جديد من قصر المُـرادية واستقدام محمد بوضياف من المغرب المجاور، ليكون رئيس المجلس الأعلى للدولة، وتبدأ بعدها أسهُـم الجنرال القوي بالانخِـفاض لصالح الجنرال خالد نزار، خاصة بعد أن فشلت جهوده في عام 1993 بالتوفيق بين قيادة الجيش وعبد العزيز بوتفليقة مرشّـحا للرئاسة، وظل بعدها في شبه عُـزلة في عهد الرئيس ليامين زروال (1993 الى 1999)، وليكون ملجأ قادة الجيش في البحث عن خليفة زروال، الذي حاول الخروج من تحت عَـباءة رِفاقه بالسِّـلاح، ويقترح عليهم عبد العزيز بوتفليقة من جديد، لكنه نجح هذه المرة في إقناع قيادة الجيش بالتخفيف من قبضتهم في تدبير شؤون الدولة وإقناع بوتفليقة بقيادة الجزائر المدنية والدبلوماسية، وترك الملفّـات الأخرى، وأبرزها متابعة مكافحة الجماعات الأصولية المتشدِّدة للجيش.

وعلى غرار الشاذلي بن جديد، حرص الرئيس بوتفليقة على إبقاء الجنرال العربي بلخير إلى جانبه وعيّـنه مديرا لديوانه، وأساسا ضابط اتِّـصال مع قيادة الجيش، لكن قُـبيْـل انتهاء الولاية الثانية للرئيس بوتفليقة، كانت داخل قصر المُـرادية خيوط تشتبك ومصالح تنمُـو وأسماء تبرُز، وعلى رأسها السعيد، شقيق الرئيس، وككل القصور، بدأ قصر المرادية يشهَـد صِـراعات شِـبه مُـعلنة عبْـر ملفّـات فساد قديمة أو حديثة تُـفتح أو يُكشف عنها، كانت تُـصيب في كثير من شظايها الجنرال القوي، ولم يجِـد الرئيس من طريق للتّـخفيف من حدّة هذه الصِّـراعات وتمهيد الطريق أمام شقيقه، إلا تقليص سلطات صديقه ومدير ديوانه العربي بلخير، الذي أقام بفرنسا قبل أن يستدعيه الرئيس بوتفليقة ويعيِّـنه سفيرا بالمغرب.

وتنقل صحيفة مغربية عن صديق للرّاحل العربي بلخير أن الرئيس بوتفليقة قال له حينما قرّر تعيينه سفيرا: “أنت ذاهِـب في مهمّـة خاصة إلى الرباط لن يقوم بها أحد غيرك، إنك ذاهب لفتح صفحة جديدة مع القصر الملكي”، ويضيف نفس الصديق أن الرئيس بوتفليقة واصل مُـهاجمته للمغرب علانِـية وأن المجاملات الراقية، التي كان يعامَـل بها بلخير في الرباط من طرف كِـبار المسؤولين بالمغرب، بما فيهم القصر الملكي، لم تكن تُـترجِـم مواقِـف رسمية تُـجاه بلاده، تساعده على لعِـب دور أكبر في تحقيق اختراق في العلاقات، التي لا زالت محكومة بين نِـزاع تمسّك به الورثة أكثر من صانعيه، وحدود برية لا يعرف كيف تفتح بواباتها والتي لا يعترف بها مواطنو البلديْـن، سواء من خلال تنشيط عمليات التّـهريب عبْـر هذه الحدود المُـغلقة أو عبْـر الفرح الذي ساد لتأهّـل فريق كرة القدم الجزائري لمونديال جنوب إفريقيا والأعلام الجزائرية التي رُفعت إلى جانب الأعلام المغربية، وهي تجُـوب شوارع المُـدن في شتى أنحاء المملكة.

الجزائر (رويترز) – توفي لواء متقاعد كان أحد مهندسي منظومة الحكم في الجزائر على مدى عقود ومن المحتمل أن يترك رحيله فراغا في قلب النظام السياسي المعقّد في الدولة المصدرة للطاقة.

وكان العربي بلخير الذي توفي يوم الخميس 28 يناير 2010 عن عمر يناهز 72 عاما ينتمي الى جيل من ضباط الجيش الذين شكلوا الأساس للنخبة الحاكمة في الجزائر منذ استقلالها عن فرنسا في عام 1962.

ولكن كثيرين منهم توفوا أو انسحبوا من الحياة العامة في السنوات الأخيرة مما غيّر معالم المشهد السياسي في دولة تمد أوروبا بعشرين في المائة من احتياجاتها من الغاز ولا تزال تخرج من صراع مسلح طويل مع متشددين إسلاميين.

ولعب بلخير وهو وزير سابق للداخلية وشغل منصب مدير الديوان لرئاسة الجمهورية دورا رئيسيا في صعود اثنين من رؤساء الجزائر. ولعب أيضا دور الوسيط بين جماعات متنافسة تشترك في السلطة.

وقال عابد شارف المحلل السياسي والكاتب الجزائري لرويترز “إن وفاة بلخير قد تُـفـاقـم غياب التنسيق بين صناع القرار”.

وطبقا للدستور الجزائري يسيطر الرئيس والبرلمان على السلطة. وكلاهما منتخب ولكن معظم المحللين يقولون إن الجيش وأجهزة الأمن لهم نفوذ كبير في صنع القرار.

ويواجه النظام الحاكم كيفية إدارة الانتقال إلى جيل جديد من الزعماء. والرئيس عبد العزيز بوتفليقة عمره 72 عاما. وتنتهي فترة ولايته الثالثة في عام 2014 ولم يكشف عما إذا كان سيمارس حقه في ترشيح نفسه لفترة ولاية جديدة.

وأمضى بلخير السنوات الأخيرة من عمره سفيرا للجزائر لدى المغرب. وقال محللون إن نفوذه تراجع ولكن كان يجري استدعاءه أحيانا للمساعدة في حل خلافات.

وقال المحلل السياسي محمود بلحيمر لرويترز “إن بلخير لعب دورا رئيسيا في الحياة السياسية الجزائرية لثلاثة عقود على الأقل لاسيما في إيجاد أرضية مشتركة بين الجيش والمدنيين”.

وقالت وسائل إعلام جزائرية إن بلخير توفي في الجزائر بعد أن عانى من مشكلات في الجهاز التنفسي. ومن المقرر أن يدفن في مقابر العالية شرقي العاصمة حيث يدفن كبار العسكريين بالجيش وموظفي الدولة.

وكان بلخير وهو ممن خاضوا حرب تحرير الجزائر مستشارا كبيرا للرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد الذي كان رئيسا للجزائر في الفترة بين عامي 1979 و1992. كما كان مستشارا كبيرا لبوتفليقة في فترة ولايته الأولى بين عامي 1999 و2004 .

وكان بلخير وزيرا للداخلية في عام 1991 عندما كانت جبهة الإنقاذ الإسلامية على وشك الفوز في الانتخابات التشريعية. ولعب دورا كبيرا في إلغاء الانتخابات وفي تعيين مجلس دولة حل محل بن جديد في إدارة شؤون البلاد.

(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 29 يناير 2010)

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية