مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

الشباب العربي وعدوى الحرية!

الرسالة التي بعثها شباب العرب في الأسابيع الماضية تتلخص في عبارة "لقد انتهى زمن الخوف" swissinfo.ch

لا يخلو التزامن التلقائي للمظاهرات والاعتصامات السلمية التى شهدتها عدة دول عربية من دلالات كبرى.

تلك الدلالات تتلخص في عبارة واحدة: شباب عربي تلقى، رغم كل المعوقات، عدوى الحرية، وهجر الخوف من سلطة الاستبداد، ويمارس التمرد على كل القيود.

النسبة الأكبر ممن يقومون بهذه التظاهرات، سواء في شوارع بيروت أو أروقة جامعتي القاهرة المصرية وصنعاء في اليمن، أو على أعتاب نقابتي المحامين والصحفيين المصريتين، وأمام مجمع النقابات المهنية في العاصمة الأردنية عمان، وفي جمعية المحامين التونسية، هم من فئة الشباب ما بين العشرين ومنتصف الثلاثينات من العمر.

وسواء كانوا طلابا في مراحل العلم العالية أو من الخريجين الجدد الذين اصطدموا بحقائق الحياة الصعبة في مجتمعاتهم، فهم من الذين تَـضيق بهم مساحات الحرية المسموح بها في بلادهم، ولم يعد يكفيهم وعود غامضة بمستقبل أفضل، ولم يجدوا أمامهم سوى التحرك العملي لصوغ هذا المستقبل بأيديهم وسواعدهم دون انتظار.

تنوع القضايا وتوحد المصير

هذه التحركات الشبابية، وإن عكست قدرا من الغضب المكبوت ورغبة التمرد، فكل منها يصلح كدراسة حالة بذاتها، من حيث الأسباب وطُـرق التعبير والأهداف المرجوة. فالذين خرجوا في شوارع بيروت ومدن لبنانية أخرى رافعين العلم اللبناني، سواء كانوا من المعارضة أو الموالاة، فهم من المدافعين عن حرية الوطن واستقلاله، ولمنع الضغوط الخارجية عنه.

أما متظاهري حركة كفاية الشعبية المصرية، ومن ورائهم الطلاب الجامعيين، فدافعهم يتلخّـص في إصلاح أحوال الوطن السياسية وجذبه إلى طريق الديمقراطية والتعددية والمنافسة الحرة، والمشاركة الشعبية ورفع القيود المميتة عن العمل الحزبي. ومن قبل، كانت مظاهرات أمام مقر الجامعة العربية تدعوها إلى إصلاح نفسها والتخلص من جمودها الذي يتعّـمده البعض.

ومظاهرات طلاب جامعة صنعاء، وإن رفعوا لافتات ترفض الفساد في الجامعة، فالرسالة تصلح للمجتمع ككل. وفي تونس، أتى تجمع المحامين التونسيين لرفض مبدأ زيارة شارون لبلادهم على خلفية دعوة رسمية لحضور مؤتمر المعلومات الدولي المقرر عقده في شهر نوفمبر المقبل.

وكذلك، جاء تجمع المثقفين السوريين وبيانهم الشهير الداعي إلى سحب قوات بلدهم من لبنان ولفتح نوافذ الحرية في الداخل، باعتبارها السبيل الوحيد لإنقاذ الوطن. ناهيك عن مظاهرات الشباب الفلسطيني التي لم تنقطع يوما، رفضا للاحتلال ودفاعا عن الوطن وحريته واستقلاله.

حالات عدة يجمعها طلب الحرية والإصلاح والاستقلال، ورفض الفساد والتطبيع المزيف مع بلد ما زال في نفوس الغالبية العربية هو العدو الأول، فضلا عن التطلع إلى نظام عربي أفضل وأقوى.

اختلاف الأسباب وتنوعها في الآن نفسه يعني أن الشباب العربي ليس معزولا عن بيئته المباشرة، سواء المحلية أو القومية. فهو جزء منها والأكثر تأثرا بما يجري فيها. وتلك بدورها تُـعيد إلى الأذهان مظاهرات الطلاب المصريين الصاخبة عام 1968 لرفض الهزيمة، وهي المظاهرات التي تكرّرت لاحقا في الأعوام 1971 و1972 و1977 وغيرها.

تشويه الثقافة السياسية

عدم عزلة الشباب العربي يعني الفشل الذريع لكل المراهنات الرسمية على تطويعه ومنعه من أن يُـمارس دوره في الحياة السياسية بكل حيوية وهمة.

فإذا استثنى لبنان، فإن غالبية الدول العربية تحظر على طلابها الجامعيين العمل بالسياسة في أروقة الجامعة، وتطلب منهم أن يكونوا طلابا فقط يحصلون العلم وكأنهم مُـجرد آلات صمّـاء، وأن يخلعوا رِداء الاهتمام بهموم الوطن خارج الأبواب التي يحرسها الأمن، والذي بدوره يتحكّـم في طبيعة الندوات الثقافية أو السياسية والضيوف المدعوين إليها، كما أن له الكلمة الأخيرة في إجراء النشاط أو حظره.

مثل هذه الإجراءات المانعة لَـعِـبت دورا كبيرا في تشويه الثقافة السياسية لأجيال كاملة، لاسيما حين كان الإعلام الحكومي الموجه هو الوحيد المسموع كلمة وصورة. ولسنوات تمتد أكثر من عقدين وثلاثة في غالبية الدول العربية، كان الشباب العربي رهينة الحزب الواحد أو كلمات الزعيم القائد المُـلهم، ومحصورا في ثقافة الطاعة والولاء، في الوقت الذي يُـفترض فيه أن يكون الأكثر انفتاحا على كل جديد في الحياة، ومعرضا للفكر والثقافة من مشارب شتّـى تُـمكّـنه من تنمية حرية الاختيار والإبداع والابتكار خِـدمة لنفسه ولوطنه على السواء.

الحرية.. واقع لا خلاص منه

سياسات تعليب الشباب، وإن أفلحت في سنوات مضت، فقد كان هناك ما يُـبرر ذلك من قمع، وسطوة حزب واحد، وحكومات تُـجسّـد الاستبداد بكل المعاني، وصراع دولي لم يتح سوى حرية الاختيار بين متناقضين كلاهما مر.

الآن لم تعد مثل هذه السياسات بقادرة على أن تصمُـد في وجه رياح التغيير، وواقع العولمة وشبكة الإنترنت، والفضائيات من كل حدب وصوب، والواقع الافتراضي والتواصل اللا محدود واللا نهائي.

أدوات جديدة فَـرضت نفسها مُحمّـلة بكل قيم التنوع المفرط وكل المفارقات والمتناقضات والثنائيات والثلاثيات والرباعيات وغيرها، والأهم من كل ذلك، الحرية في الاختيار.

جنبا إلى جنب، عمليات وسياسات دولية مخططة تحفز على التمرد وتُـشجّـع على الخروج من قفص الاستبداد، وتقوم بها آلات إعلامية أوروبية وأمريكية هائلة، قادرة على الوصول إلى كل بيت وكل أذن، وتصريحات لمسؤولين دوليين كبار لا يكِـلّـون ولا يملّـون من التنديد بقمع الحكومات العربية والإشادة بثورة الأجيال الجديدة. إنه مناخ الثورة والتمرد بكل معانيه.

شباب العرب شأنه شأن شباب العالم، لم يعد قاصرا ولم يعُـد من الممكن سِـجنه في مجتمع القيود والطوارئ والطاعة العمياء. لقد انتهى زمن الكبت والتعليب، وبدأ زمن التحرّر والتعرض لثقافات شتّـى، ولم يعد من الممكن أن يُـواجه شباب العرب مشكلات اليوم بنفس العقلية التي تحاول حكوماتهم المستبدة أن تَـفرضها عليهم، وكأنها تملك قدرة الفرض والمنع، كما كان في السابق.

لا.. لزمن الخوف

ما يجرى في بيروت أو في القاهرة أو في الرياض، يُـشاهده شباب العرب ورجالهم ونسائهم في كل مكان، ويظل التساؤل، هل هؤلاء أقدر منا على التمرد، ونحن أقل منهم قدرة على المواجهة؟ هذه التساؤلات وغيرها تَـفرض نفسها، وتكون الإجابة واحدة وعملية أيضا، الخروج إلى الشارع، والاعتصام، وتقديم البيانات، ورفض القمع، والتطلع إلى الحرية الواسعة، لقد انتهى زمن الخوف.

لكن بعض حكومات العرب مازالت تعيش في وهم القدرة المطلقة كما كانت قبل عقدين أو ثلاثة، وبعض رجالها ما زالوا غيرُ قادرين على هضم ما يجري في العالم من حولهم، وبعيدين عن استيعاب موجة الحرية التي سرت في أوصال الشباب والفتية والرجال والنساء من كل الأعمار وكل الشرائح الاجتماعية، وليس هناك سوى احتمالين، أن يُـغلِـق البعض عيونَـهم وسيُـواجهون الثورة بكل معانيها، فالكيل، كما يقول المثل الشائع، قد فاض، وإما التكيّـف مع حقائق العصر وفتح نوافذ الحرية والإصلاح، والتخلّـي عن طوارئ لن تُـفيد أمام واقع جديد بكل المعاني.

شباب العرب لم يعد كسولا أو خمولا أو خائفا أو قابلا بفتات الحرية كما يظن البعض، ومن يريد أن يتأكّـد، فعليه أن يتطلع في وجوه وشعارات المتظاهرين في بيروت والقاهرة وصنعاء وتونس وغيرهم.

د. حسن أبوطالب – القاهرة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية