جيل مستأجر: بيت الأحلام بات بعيد المنال في سويسرا

لم تعد الأجيال الشابّة في الكثير من المجتمعات، قادرة على امتلاك مسكن، وليست سويسرا استثناءً. وفي ما يلي نظرة على سوق المساكن، الذي لا يرحم، في بلد جبال الألب.

المزيد
نشرتنا الإخبارية حول التغطية السويسرية للشؤون العربية
“لم تكن لديكما الرغبة الكافية”؛ هكذا قالت البائعة، وريثة البيت. وهي عبارة ظل صداها يتردد في أذني الزوجين الشابين لمدة طويلة.
فلقد شاركا في مزاد على بيت شبه مستقلّ، في مدينة سويسريّة متوسّطة الكثافة. لقد كان بيتًا عمره 100 عام، ولم يُرمَّم منذ نصف قرن.
وتبلغ قيمة هذا العقار 1،49 مليون فرنكًا، “على أقصى تقدير”، بحسب ما قاله البنك. وقد عرض الزوجان 1،7 مليون فرنكًا، أي بزيادة قدرها 200،000.
لكنّها “لم تكن كافيةً على الإطلاق”، مثلما قالت البائعة.
لكن نسبة امتلاك المنازل تختلف من دولة لأخرى وفقا لعوامل متعددة، منها تكلفة شراء العقار، وسياسات الإسكان، وربما الثقافة والتقاليد الاجتماعية، لذلك تبلغ نسبة امتلاك المساكن 36% في سويسرا، في حين هي مرتفعة جدا في مجموع البلدان العربية. فوفقا لتقرير موقع “سي إي أو وورلد”، تم تصنيف قائمة مختارة من البلدان العربية بناء على نسبة ملكية المنازل، حيث تم احتساب النسبة بقسمة عدد المنازل المملوكة للسكان على إجمالي عدد المنازل في كل بلد. فكانت النسب كالتالي:
أحلام مُتبددة
لكن التجربة المذكورة في مفتتح هذا المقال ليست استثناء، بل باتت مألوفة لدى كثير من الأزواج، والعائلات في سويسرا. فقلّة مساحة الأراضي المهيّأة للبناء، وانخفاض أسعار الفائدة، والتدفّق المستمرّ للقوى العاملة من المحيط الأوروبيّ، كلّها عوامل أسهمت في زيادة الطلب على العقارات.
وفي هذا السياق، شهدت أسعار البيوت والشقق السكنية في سويسرا ارتفاعًا حادًا في السنوات الأخيرة، تجاوز 30% بين عامي 2017 و2024.
وبعد جائحة كورونا، حدث “تغير لا يُصدّق في الأسعار”، وفقًا لأورزينا كوبلي، رئيسة قسم الأبحاث العقارية في بنك كانتون زيورخ.
فقد شهدت الأسعار في المواقع ارتفاعًا إضافيًا حادًّا. وامتدت هذه الموجة إلى المناطق النائية؛ “فالطوفان يرفع كل السفن”، كما تقول كوبلي.
ويتوقّع بنك كانتون زيورخ أن ترتفع الأسعار بنسبة 4،5 في المائة في عام 2025، وأن تسجّل النسبة ذاتها مجدّدًا في عام 2026. وبالنسبة إلى كانتون زيورخ، الأكثر كثافة سكانيّة في سويسرا، ستؤدي هذه الزيادة إلى ارتفاع سعر البيت الخاصّ بأكثر من 140 ألف فرنك، خلال عامين فقط.
ومع هذا الارتفاع، لن تكون مدّخرات الفئة متوسّطة الدخل كافية، وستبدَّد أحلامها بامتلاك بيت خاصّ.
ففي عام 2024، وبحسب بنك كانتون زيورخ، تمكَّن 9% فقط من الأزواج، في الثلاثينات والأربعينات من العمر، من امتلاك منزل، أي بتراجع قدره أربعة بالمائة عن السنوات الخمس الماضية.
صمود الفئات المرتفعة الدخل
ورغم التحدّيات المتزايدة في سوق العقارات، لا تزال فئة من السكّان قادرة على مجاراة الأسعار؛ إذ تبلغ نسبة تملُّك مسكن خاصّ (بجميع أنواعه، وفي جميع الفئات العمريّة في جميع أرجاء سويسرا) حاليًّا 36%، أي إنّ أكثر من ثلث السكّان يعيشون في مساكن يملكونها.
ومع ذلك، يشير روبرت فاينرت، كبير المحللين في شركة “فويست وشركاه” (Wüest Partner)، إلى أن “هذه النسبة شهدت تراجعًا في السنوات الأخيرة”.
فقد أجرت الشركة دراسة، قارنت فيها بين الأجور وأسعار العقارات حسب المناطق، وخلصت إلى أن التملّك أصبح أكثر صعوبة بالنسبة إلى شرائح واسعة من المجتمع.
فعلي سبيل المثال، وبالنسبة إلى 58% من الأسر السويسرية التي تضم شخصين عاملين، تُعد أسعار العقارات أعلى من قدرتها على شراء بيت. بينما يعدّ تملك بيت خاص صعب المنال بالنسبة إلى 79% من الأسر.
ويُفسّر فاينرت هذا التفاوت بقوله: “إنّ التوزيع غير المتكافئ بين الدخل والثروة، يؤدّي إلى ملكيّة القلّة الجزء الأكبر من المال”. ويضيف أنّ هذه القلّة تظلُّ قادرة على مجاراة الأسعار مهما ارتفعت، وتسهم بذلك في إبقاء الأسعار مرتفعة. وينطبق هذا بصفة خاصّة، على البيوت الخاصّة.
ويزيد الأمر تعقيدًا أن المعروض لا يزداد، بل يتقلص في بعض المناطق، لا سيَّما في المواقع المركزية، حيث تُهدم البيوت الخاصة ليُقام مكانها عدد كبير من الشقق السكنية.
ويتفق كلاوديو سابوتيللي، رئيس قسم تحليل العقارات في العملاق المصرفي السويسري “يو بي إس” (UBS)، مع تقدير فاينرت. ويُوضّح أنّ متوسّط الدخل لا يعكس بالضرورة توزيع الثروة الفعليّ، ويضيف: “من يقارن متوسّط المدخول مع الأسعار المدفوعة، ينظر إلى السوق من منظور خاطئ… أمّا إذا ما نظرنا فقط إلى الفئة التي تملك القدرة على شراء بيت، فحينها يبدو التطوّر أقلّ مأساويّةً”؛ فلا تزال هذه الفئة عالية الدخل، قادرة على مجاراة أسعار العقارات.
“إسفين في المجتمع”
أما المشاعر التي يؤججها تطور أسعار البيوت لدى الجماهير العريضة، فتعكسها التعليقات في وسائل التواصل الاجتماعي.
فعلى سبيل المثال، يعلق أحد مستخدمي منصة “ريديت” (Reddit) على منشور لآخر، يريد شراء بيت في سويسرا بقوله: “أين تريد الشراء إذن؟ إذا كان في زيورخ، فانسَ… حاليًا كل شيء باهظ الثمن… فقط أموالك هي التي أصبحت بلا قيمة”.
ومؤخرًا، تصدَّر جريدة تاغس آنتسايغر (جريدة يوميّة تصدر بالألمانيّة من زيورخ) هذا العنوان: “لم يعد امتلاك بيت خاصّ في مقدور حتى من يكسب 200،000 فرنكًا سنويا”. وتطلق البلدان الأنجلوساكسونيّة على هذا الوضع تعبير “أزمة القدرة على شراء المساكن”، أو ببساطة “أزمة المساكن”.
فقد كان لبريطانيا، والولايات المتّحدة الأمريكيّة، وأستراليا، تجربة في هذا المجال، لضرب بعض الأمثلة فقط.
ويرى كريستيان هيلبرت، الخبير الاقتصاديّ المختصّ في سوق العقارات، الذي يُدَرِّس في كلّ من كليّة الاقتصاد بلندن وجامعة زيورخ، أنّ “هذه الأزمة تدقّ إسفينًا في النسيج المجتمعيّ”.
وعلى حدّ قول هيلبرت، لقد تأخّر حدوث هذه الأزمة في سويسرا بالمقارنة ببريطانيا. فإذا ما قارنّا الأسعار الحاليّة بتلك في سبعينات القرن العشرين، فسنرى أنّها قد تضاعفت في بريطانيا، وبغضّ النظر عن غلاء المعيشة، بنسبة 405 بالمائة (اعتبارًا من 1970 وحتى 2024). أما في سويسرا، فقد بلغت هذه الزيادة 106 بالمائة “فقط”.
ويعزو هيلبرت هذا الفارق إلى القيود الموضوعة على التخطيط العمرانيّ، التي تعرقل البناء في بريطانيا منذ زمن بعيد. في حين ظلَّ التخطيط العمرانيّ في سويسرا، حتى مطلع العِقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، يتّسم بالمرونة. وبالفعل، يعود جزء كبير من التغيّر في الأسعار إلى الفترة اللّاحقة.
ويتأكَّد هذا التحليل في مقارنة صدرت مؤخرًا عن شركة ” فويست وشركائه”، تُظهر التطوّر النسبيّ لأسعار العقارات في دول منظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية (OECD)، خلال العِقد الماضي.
تكوُّن الثروات من جانب واحد
وفي الولايات المتحدة، حيث تتفاقم “أزمة المساكن” منذ سنوات، يُسمي ثلاثة أرباع الشعب القدرة على تمويل المساكن بـ المشكلة المتفاقمةرابط خارجي. وتلاحظ سارة ديكرسون، الأستاذة بمعهد كينان الخاص، والتابع لجامعة نورث كارولينا، نوعًا من الاستسلام لدى الجيل الجديد.
وتقول: “ما يزال امتلاك بيت خاصّ جزءًا هامًا من الحلم الأمريكيّ، ولكن أصبح إدراك أنه قد يظلّ حلمًا غير قابل للتحقق، هو السائد لدى الكثيرين”.
وبحسب ديكرسون، يكمن السبب وراء ذلك في واحدة من المشكلات الأساسيّة، وهي الهوّة الشاسعة بين الفقر والغنى، التي تزداد اتّساعًا. فقد كانت العقارات السكنيّة، بالنسبة إلى قطاعات عريضة من المجتمع، وسيلة لتحقيق المزيد من الرفاهيّة. والآن، أصبحت شريحة كبيرة محرومة من هذه الإمكانيّة.
ولا يستطيع المشاركة فيها إلّا من يحظى والداه بالثراء. وبهذا، يُعزز هذا الفارق الاجتماعيّ على المدى البعيد.
ليست جزءًا من تقاعد الشيخوخة
وفي سويسرا، تنامت الكثير من الثروات أيضًا عن طريق صفقات استثماريّة في سوق العقارات. ولكن تبدو الأهميّة الاجتماعيّة لامتلاك مسكن أقل بروزًا، مقارنة ببلدان أخرى. ويُعزى ذلك إلى جودة نظامي تقاعد الشيخوخة، والرعاية الصحية.
وينعكس هذا بوضوح على معدّلات التملّك العقاريّ، التي لطالما كانت منخفضة نسبيًّا في سويسرا، بالمقارنة مع دول العالم.
فبينما يقيم نحو ثلث سكّان سويسرا في عقار خاصّ، تبلغ هذه النسبة الثلثين في الولايات المتّحدة الأمريكيّة وبريطانيا.
أما في الدول التي يعاني فيها نظام التقاعد من ضعف واضح، مثل رومانيا، فإنّ نسبة السكن الخاصّ تربو على 95 في المائة. إذ تُعدّ الملكيّة الخاصّة هناك، بمثابة شبكة أمان بديلة.
إن انخفاض معدل ملكية المنازل في سويسرا أمر غير معتاد من حيث إن شروط التمويل مواتية للغاية. على سبيل المثال، طالما أن الرهن العقاري لا يتجاوز ثلثي قيمة العقار، فلا داعي لإطفاء الدين – بل هناك حوافز ضريبية لعدم تخفيض الدين.
ومع ذلك، عند منح الرهن العقاري، تستخدم البنوك معدل فائدة محسوب بنسبة 5% لحساب الجدارة الائتمانية للمشترين. يضاف إلى ذلك 1% من قيمة العقار لتغطية تكاليف الصيانة والتكاليف الإضافية. ويجب ألا يتجاوز مجموع هذين العنصرين ثلث إجمالي الدخل السنوي.
أسعار الفائدة على الرهن العقاري منخفضة وفقًا للمعايير الدولية – تتراوح حاليًا بين 1.4% و1.6% للرهن العقاري الثابت لمدة عشر سنوات. وتعني الانخفاضات الأخيرة في أسعار الفائدة أن الشراء الآن أرخص من الإيجار في سويسرا، وهو ما يغذي المزيد من الارتفاعات في الأسعار.
استراتيجيات التأقلم مع السوق
وفي ظلِّ هذه الأوضاع، لم يعد أمام كثير من الأسر الشابّة، من الطبقة الوسطى في سويسرا، سوى خفض تطلّعاتها. وغالبًا ما يبدأ ذلك بتوسيع النطاق الجغرافيّ للبحث عن المسكن، وهذا ما تؤكّده بيانات منصّات العقارات، بحسب قول كوبلي، الخبيرة ببنك كانتون زيورخ.
ومن طرق التملّك أيضًا، أن تؤول إلى المرء ملكيّة بيتٍ مملوكٍ للعائلة. وهذا سيناريو متكرر. فتقول كوبلي: “حوالي نصف إجمالي عدد البيوت يتمّ توارثه داخل الأسرة”.
وهناك استراتيجيّة معروفة، تنتشر بقوة في بريطانيا، إلّا أنّها أقلّ انتشارًا في سويسرا، وتكمن في شراء ما يمكن شراؤه، حتى وإن لم يكن البيت مناسبًا تمامًا، فقط حتى يمكن للمرء تطوير نفسه مع السوق. ثم يُباع هذا البيت لاحقًا، ليُشترى آخر أكثر ملاءمةً.
وعلى الجانب الآخر، لا يبدو أن انتظار حدوث “تصحيح كبير” في الأسعار سيكون مجديًا في سويسرا. فمع الهجرة المستمرّة من الاتحاد الأوروبي، ومع انخفاض نسبة الشقق المتاحة إلى ما دون واحد بالمائة تقريبًا، من المُرجَّح أن يستمرّ تفاقم أزمة المساكن في سويسرا.
وفضلًا عما سبق، فبسبب انخفاض قيمة العملة ووضع أسواق المال المتذبذب، أصبح هناك إقبال على ما يعرف بـ “الشراء لأجل الإيجار” (Buy to Let)، أي شراء الشقق الخاصّة، لاسيما حديثة البناء، لإيجارها بهدف الربح.
ولذلك، تجد الأسر الشابّة، التي ترغب في شراء شقق في مبانٍ سكنيّة، نفسها في منافسة مع جيل طفرة المواليد (جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية: 1946-1964)، المستقرّ ماديًا، والذي يسعى لاستثمار ثروته.
ولكل ما سبق، لا يُتوقع هبوط الأسعار في المستقبل القريب، وهذا تقدير يشترك فيه تقريبًا كل من قابلت سويس إنفو (SWI swissinfo.ch) من خبراء وخبيرات.
أمَّا سابوتيللي، الخبير ببنك “يو بي إس”، فيرى الفرصة الوحيدة لتصحيح أوضاع سوق العقار في حدوث ركود مستمر، وهو سيناريو لا تتمناه بالتأكيد أسر الطبقة المتوسطة.
المزيد
ترجمة: هالة
مراجعة: ريم حسونة
التدقيق اللغوي: لمياء الواد

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.