مفارقة تدفق رؤوس الأموال.. هل الدول النامية بصدد تمويل الدول الغنية؟
يُعدُّ هذا الأمر بمثابة اللغز بالنسبة للخبراء الاقتصاديين: فبدلا من أن تتجه تدفقات رؤوس الأموال من الدول المتقدمة باتجاه الدول النامية، اتضح أنها تسير في الاتجاه المعاكس. وهكذا، يتم تهريب مئات مليارات الدولارات من الدول النامية في كل سنة إلى البلدان الغنية، بما في ذلك سويسرا.
في ربيع هذا العام، أعلنترابط خارجي منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أنَّ أكثر من 160 مليار دولار، أي ما يُعادل إجمالي الناتج المحلي لدولة أوروبية كالمجر: هو المبلغ «غير المسبوق» الذي خصّصته الدول المتقدمة للمساعدة الإنمائية الرسمية أو العمومية (يُشار إليها اختصارا بـ APDرابط خارجي) في عام 2020.
في عام الجائحة هذا، زادت نصف الدول المانحة مساهماتها من أجل مساعدة الدول الأقل نمواً على مواجهة الأزمة الصحية. وهذا هو حال سويسرا، التي قدّمت 3,5 مليار دولار، أي أكثر بحوالي 9% من المبالغ التي وفرتها في عام 2019.
حتى قبل اندلاع الأزمة الصحية العالمية، كانت المساعدة الإنمائية الرسمية في ارتفاع مستمر حيث ازدادت قيمتها أكثر من الضعف منذ عام 2000، على الرغم من الأزمة التي شهدها العالم سنة 2008. وقد تمَّ دفع 120 مليار دولار وسطياً في كل عام، أي في المجموع ما يزيد عن 2500 مليار دولار خلال عشرين عاما، وهو ما يعادل تقريباً إجمالي الناتج المحلي السنوي لفرنسا.
إلا أنَّ عددا كبيرا من المتخصصين يُهوّنون من ضخامة المساعدات التي تمنحها الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. لأنَّ العديد منها، وخاصة سويسرا، لا تقدم ما يكفي من الموارد مقارنة بالتزاماتها الدولية (خصصت SWI swissinfo.ch المقالة أدناه لهذه المسألة). ومع أنَّ هدف أعضاء لجنة المساعدة الإنمائية هو تخصيص 0,7% من دخلهم القومي الإجمالي للمساعدة الإنمائية الرسمية ذات الطابع العمومي، إلا أنَّ هذه الحصة لم تتجاوز نسبة 0,32% في عام 2020.
المزيد
سويسرا متضامنة “بقدر ما يسمح به الوضع الإقتصادي”
ووفقاً للبعض، قد يكون ذلك أيضاً للحفاظ على فكرة أن الأموال تتدفق باتجاه واحد من الدول المانحة إلى الدول النامية، في حين أنَّ الأمور ليست بهذه البساطة. وهذا، على سبيل المثال، ما كتبه جيزون هايكلرابط خارجي، الخبير البريطاني المتخصص في الاقتصاد والسياسة والتفاوت على الصعيد العالمي، في صحيفة الغارديانرابط خارجي في عام 2017: «تُروى لنا حكاية منذ زمن بعيد (…) [مفادها] أنَّ الدول الغنية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تتبرع بسخاء من ثرواتها للدول الفقيرة (…) من أجل (…) الارتقاء بها في مجال التنمية. (…) هذه الرواية منتشرة بشكل واسع (…) لدرجة أننا أصبحنا نعتبرها أمراً مُسلّماً به». بيد أنَّ البلدان الغنية تتلقى تدفقات مالية قادمة من الدول الناشئة أكثر بكثير مما يتم تحويله في الاتجاه المعاكس.
عجز متواصل
بالتأكيد، ليس المقصود بالمساعدات الإنمائية أن تكون تعويضاً مالياً عن جميع أوجه عدم المساواة القائمة بين الدول المتقدمة والبلدان السائرة في طريق النمو، لكنها «شيء ضئيل جداً بالنظر إلى حجم الخلل» وفقاً لرشيد بوحيةرابط خارجي، الخبير الاقتصادي في مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنميةرابط خارجي (أونكتاد)، الذي يتخذ من جنيف مقرا له.
وبالإضافة إلى أنه مسؤول عن الشؤون الاقتصادية في قسم العولمة واستراتيجيات التنمية، فهو مؤلف مشارك لمذكرة موجزةرابط خارجي نُشرت في ربيع 2020، وهي واحدة من أحدث الأبحاث حول هذا الموضوع.
يُظهر الرسم البياني لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) التحويل الصافي للموارد المالية، أي مجموع تدفقات الموارد والاستثمارات القادمة من الخارج، مطروح منها مجموع تدفقات الموارد الخارجة (بما فيها زيادات احتياطيات النقد الأجنبي ومدفوعات العائدات للمستثمرين الأجانب). وقد تمَّ اعتماد المنهجية المتبعة من قبل الأمم المتحدة في ثمانينيات القرن الماضي.
تُظهر المذكرة أنَّ المبلغ الإجمالي للتدفقات المالية التي تخرج من الدول النامية أكبر بكثير من تلك التي تدخل إليها من الدول الغنية (سواء تعلق الأمر بمساعدات من أجل التنمية أو بالاستثمارات الأجنبية المباشرة أو حتى بالتدفقات التجارية).
بما أنَّ الظاهرة عالمية، فإنه من غير الممكن تقدير مدى استفادة سويسرا منها بمعزل عن غيرها. ولكن، بحكم مكانتها كمركز اقتصادي ريادي ومزاياها (من فائض تجاري وعملة مستقرة وأصول مالية آمنة إلخ.)، فإنَّ سويسرا «تتوفر فيها الكثير من المواصفات» لجذب التدفقات المالية الأجنبية ولتكون واحدة من بين الدول المستفيدة من المنظومة، وفقاً لرشيد بوحية.
وباعتبارها واحدة من بين المراكز العالمية الرئيسية لتجارة المواد الأولية ولأنها تُؤوي العديد من مقرات الشركات المتعددة الجنسيات الناشطة في البلدان النامية، فإن سويسرا معرضة أيضاً لجذب تدفقات مالية غير مشروعة (انظر الشرح أدناه). ولذا تحثها منظمات غير حكومية لبذل المزيد من الجهد، على غرار منظمة النزاهة المالية العالميةرابط خارجي، التي تنتقد نظامها المصرفي والضريبي الذي لا يزال “غير نزيه”، حسب رأيها.
في السياق، ذكر جيل كاربونييهرابط خارجي، أستاذ اقتصاد التنمية في المعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية في جنيف، أنَّه «على مستوى تعددية الأطراف، بذلت سويسرا جهوداً (…) باتخاذها مجموعة من التدابير الهادفة إلى إرساء نظام أكثر إنصافاً فيما يتعلق بالقواعد الضريبية» ولكن «ما زال الطريق أمامها طويلاً». وبحسب البروفسور، «سيكون من مصلحة سويسرا أن تقوم بدور الريادة وتسعى لوضع حدٍ للفوضى».
المزيد
عندما تتحوّل سويسرا من مموّل إلى مستفيد
ويذكر رشيد بوحية أنَّ هذه الظاهرة «تتعارض مع النظريات الاقتصادية الكلاسيكية الجديدة، التي مفادها أنَّ رؤوس الأموال يجب أن تذهب بشكل طبيعي من الدول الغنية إلى الدول التي تُعاني من عجز في رأس المال. كما تُظهر أيضاً أنَّ بعض نماذج التنمية التي سُلطت عليها الأضواء في العقود الأخيرة، لم تفشل فحسب، وإنما تسببت في الكثير من الهشاشة».
كما يُشير المنشور إلى أنَّ تهريب رؤوس الأموال هو نتيجة لعدة عوامل، ولكنه مرتبط بشكل خاص بـ «الهشاشة المالية الناتجة عن الديون الخارجية للبلدان النامية».
لقد وصلت بعض الدول، التي يتم تشجيعها على تحمل القروض الخارجية بهدف تحقيق التنمية، إلى مستويات عالية جداً من الديون، التي تجعلها في دوامة: حيث تُعطى الأولوية لدفع الفوائد وتحويل الأرباح على حساب الدخل.
في هذا السياق، تُظهر إحصاءاترابط خارجي أعدتها المنظمة البريطانية غير الحكومية “حملة اليوبيل للديون”، التي تناضل من أجل إسقاط ديون دول الجنوب، أنَّ حصة الدخل التي يتم إنفاقها لسداد الديون الخارجية آخذة في الارتفاع. حيث تقترب النسبة، على سبيل المثال، من 60% في الغابون و46% في أنغولا، مقابل 3 إلى 4% في معظم دول أوروبا الغربية و0,4% في سويسرا.
كما نوَّه رشيد بوحية أيضاً إلى عجز الميزان التجاري الذي تُعاني منه العديد من الدول السائرة في طريق النمو التي تستورد أكثر مما تُصدّر، أو تُصدّر المواد الخام التي تتأرجح أسعارها بشكل كبير.
وذكر الخبير الاقتصادي موضحاً بأنَّ «العديد من الدول لم تنجح في تطوير الصناعة بشكل كاف لكي تتمكّن من التصدير إلى الدول المتقدمة وبقيت عالقة في “دوامة الفقر”»، على حد قوله.
والجدير بالذكر أنَّ هناك عامل آخر: «فلكي تقي نفسها من المخاطر، شرعت الدول النامية في سباق لتكديس العملات الأجنبية، وخاصة الدولار»، وهو ما يعني خروج رؤوس الأموال من البلد الذي يشتري هذه العملات، ودخولها إلى البلد الذي يصنعها.
عشرات المليارات من تدفقات الأموال غير المشروعة
بالتالي، اقترب العجز المتراكم على البلدان النامية بين عامي 2000 و2017 من 11000 مليار دولار، منها 500 مليار دولار لعام 2017 وحده (أي أكثر من ثلاثة أضعاف إجمالي المساعدة الإنمائية الرسمية في تلك السنة).
هذه الأرقام هي الأرقام الرسمية، التي لا تأخذ بعين الاعتبار التدفقات المالية غير المشروعةرابط خارجي (التي يُشار إليها بـ FFI، حيث تمت إضافتها بغرض التوضيح إلى الرسم البياني لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية). وتغطي هذه التدفقات الأخيرة جزءًا من الصفقات الإجرامية وغسيل الأموال والتهرب الضريبي إلخ. ولكن، وبشكل خاص، من التجارة القانونية «التي تمَّ تزوير فواتيرها (…) بهدف التلاعب في الضرائب»، بحسب الأستاذ في المعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية جيل كاربونييه.
ببساطة: تتلاعب بعض الشركات متعددة الجنسيات بالفواتير لكي تتمكن من التصريح عن أرباح أقل للسلطات الضريبية في البلدان النامية التي جنت فيها تلك الأرباح ثم تُصرّح عنها، بدلاً من ذلك، في الدول التي تكون فيها الضرائب قليلة، كما هو الحال في سويسرا.
المزيد
الشركات السويسرية متعددة الجنسيات، أوزان ثقيلة عالمياً تنشط في قطاعات خطرة
عموما، من المستحيل تحديد أرقام التدفقات المالية غير المشروعة بدقة. وتُقدّر منظمة النزاهة المالية العالميةرابط خارجي، وهي منظمة غير حكومية، أنَّ قيمتها السنوية تمثل 20% من مجمل التجارة في البلدان الناشئة ذات الاقتصاد المتقدم. أما جيل كاربونييه، الذي يُجري بحثاً حول هذا الموضوع، فهو متأكد من أنَّ «الظاهرة ليست بهذه الضخامة، ومع ذلك، فهي تبقى مشكلة حقيقية». وبهذه الطريقة، تفلت عشرات، بل حتى مئات المليارات من الدولارات من أي احتمال لتخصيصها للتنمية.
ليس كل شيء أسود أو أبيض
بناء على هذه الملاحظة، تدعو الخبيرة الاقتصادية ليليانا روجاس سواريزرابط خارجي إلى تجنب الاستنتاجات المُتسرعة. كما تشير هذه المُساعِدة الفخرية في مركز التنمية العالمية في واشنطن إلى أنه لا يمكن للمنهجيات التجميعية أن تُجسّد الوضع الخاص للدول ولا أن تُعقِّدَ التبادلات. وتؤكد أنَّ هذه الأرقام لا ترقى إلى مستوى التحليل حيث تقول «إنهم يروون لنا قصة لبدء التحليل».
تشدد ليليانا روجاس سواريز، المتخصصة في العلاقة بين التدفقات المالية والتنمية، على أهمية مراقبة هذه التدفقات من ناحية النوعية وليس فقط الكمية. بعبارة أخرى، إنَّ شيطنة تدفقات رؤوس الأموال إلى الخارج من حيث المبدأ (باستثناء التدفقات غير المشروعة) لا معنى لها. وتقول إنَّ الاستثمار، الذي يُعدُّ محوراً للتنمية، يحتاج إلى نقل كبير للموارد. أما بشأن الديون، «فالمهم فعلياً، هو معرفة ما إذا كانت الموارد التي اقتُرضت قد خُصّصت لنشاطات تساعد على النمو وخلق فرص عمل» أم لا.
من جهة ثانية، تضيف ليليانا روجاس سواريز، يُمكن أن يكون خروج رؤوس الأموال أيضاً «أمراً إيجابياً»، على سبيل المثال في حال قررت دولة ما تسديد قرض قبل الوقت المحدد، فإنَّ ذلك سيُؤدي أيضاً إلى خروج أموال ضخمة.
المزيد
استنتاج واحد، وأساليب متعددة
كما أنَّ نفس الأعراض قد تستدعي عدة تشخيصات، حيث تجري مناقشة سياسات مختلفة داخل المنظمات الدولية لإعادة توازن نقل رؤوس الأموال. أما الأولويتان، بالنسبة لليليانا روجاس سواريز، فهما مكافحة التدفقات غير المشروعة من جهة، وزيادة الشفافية حول القروض بين الدول من جهة أخرى.
وهي تستشهد في هذا الصدد بمثال القروض، التي غالباً ما تكون مصحوبة ببنود السرية، والتي وافقت الصين على منحها للدول الإفريقية في إطار طريق الحرير الجديدرابط خارجي. وترى الخبيرة بالاقتصاد الكلي أنَّ الشفافية وحدها هي التي تسمح لنا بمعرفة ما إذا كانت هذه القروض الضخمة هي بالفعل امتيازاً أكثر منها فخاًرابط خارجي.
وتعتقد الأخصائية أنَّه «يجب نشر عقود القروض، وعلينا أن نعرف ما هي شروطها، من أجل تقييم ما إذا كانت فعلاً تُفيد الدول [النامية] ولا تعرّضها لتراكم الديون المُفرطة».
من جهته، يدعم مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) بعض أشكال الحماية، بالإضافة إلى زيادة المساعدة الإنمائية، بهدف مساعدة الدول السائرة في طريق النمو على تطوير القطاع الصناعي؛ كما تنادي المنظمة أيضاً بالمزيد من مراقبة رؤوس الأموال، «للتخفيف من تأثير الاستثمارات التي تدخل وتخرج دون أن تُسهم في إحداث تنمية حقيقية»، كما أوضح رشيد بوحية.
من ناحية أخرى، كان مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية يُطالب منذ زمن بعيد بتخصيص حقوق السحب الخاصة، ونجح أخيراً في تحقيق مطلبه في نهاية أغسطس 2021: حيث أعلن صندوق النقد الدولي عن ضخ قياسي في الاقتصاد العالمي بقيمة 650 مليار دولاررابط خارجي، وسيذهب مبلغ 275 مليار منها إلى البلدان النامية.
ويؤكد رشيد بوحية أنَّ مثل هذه الإجراءات، التي كانت حتى وقت قريب من الموضوعات المحظورة من التداول في منظمات مثل صندوق النقد الدولي، بدأت تجد صدى لها. فهل هو مؤشر على أنَّ الجائحة قد أحدثت تغييراً؟ المستقبل القريب كفيل بالإجابة عن هذا التساؤل.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.