احتياطي استثنائي .. فأين الإستثمار؟
بعد ستة أعوام قضاها عبد العزيز بوتفليقة في قصر الرئاسة، تكدست عشرات المليارات من الدولارات في خزينة الدولة بلغت إلى غاية اليوم مستوى الأربعين مليارا يصرف منها القليل وسط دهشة الاقتصاديين خارج الجزائر.
غير أن أهل الداخل أعلم بما هو موجود خلف الستار وبما يدور في “شعاب مكة” مثلما يُقال.
رغم أنهم ليبراليون إلى النخاع، إلا أنهم “أجبن” مستشاري بوتفليقة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ويُقصد بهم وزراء المال والطاقة والتجارة الذين يستمع إليهم الرئيس.
من بينهم شكيب خليل، وزير الطاقة والمناجم، الذي قال بالحرف الواحد: “لدينا احتياطي صرف لا بأس به، غير أننا لا ندري ماذا سنفعل به، لأن الجهاز الإداري متخلف والبنوك غير شفافة في تعاملاتها، ونظام الضرائب متهالك”.
يُفسر كلام وزير الطاقة التأخر الهائل في تجسيد برنامج الإنعاش الاقتصادي الذي وعد به بوتفليقة، بعد أن خصص له سبعة مليار دولار صُُـرفت منها مبالغ ضئيلة جدا، هذا إن صُـرف.
في هذا السياق، تدل كل المؤشرات على أن الثقة بين الفريق المقرب من الرئيس وبين عالم المال والأعمال مبنية على خيط رفيع جدا، وعلى أن هلع بوتفليقة مبني على كابوس اسمه “عدم إرجاع الأموال المقترضة”.
العودة إلى أقسى العقوبات
بالنسبة لحركة الإصلاح الإسلامية التي يتزعمها الشيخ عبد الله جاب الله، لا مناص من العودة إلى أقسى العقوبات لردع المتهربين من سداد القروض الذين يختلسون مليارات الدولة، وحل الحركة الجاهز هو: “الإعدام” قياسا على عقوبة قطع الطريق في الشريعة الإسلامية، كما أن حكم الإعدام موجود في القانون الجزائري، يكفي فقط أن يُصادق عليه الرئيس.
قد يكون هذا الحكم مفيدا، غير أن جهاز العدالة غير مفيد بسبب الفراغ القانوني، واكتظاظ السجون، واستحالة قضاء المرتشين أو المتورطين في عمليات الفساد المالي كامل مدة عقوبتهم بسبب العفو الرئاسي المتكرر عند كل مناسبة دينية أو وطنية.
ولتقريب الصورة بشكل أفضل، تجدر الإشارة على سبيل المثال إلى مشروع الطريق السريع، “شرق – غرب”، الرابط بين الحدود الشمالية الشرقية للجزائر مع تونس بالحدود الغربية مع المغرب، حيث استقال وزير المالية عبد اللطيف بن آشنهو قبل أربعة أشهر بعد أن احتج على قرار الرئيس بتمويل الطريق من خزينة الدولة، عوض ترك المجال مفتوحا للشركات الأجنبية التي تمول المشروع ثم تستفيد منه.
لم يغضب بوتفليقة من وزير ماليته بسبب الاستقالة، غير أن العجز أمام تهور المرتشين وهياجهم حال بين إيجاد التمويل الأجنبي المطلوب، رغم أن وزارة الأشغال العمومية قد قضت قرابة الثلاثة أعوام وهي تعمل بكل ما أوتيت من قوة كي تُقنع شركات دولية كبرى بالاستثمار في الطريق السريع.
الصمت وانتظار الوقت المناسب
لقد شهدت فترة البحث عن الشركات تدخلا فظيعا من قبل أناس لا علاقة لهم بالأشغال العمومية وصلوا بطرق ملتوية إلى مكتب الوزير عمر غول، كي يقنعوه بأن الشركة الفرنسية الفلانية، أو الأمريكية العلانية، ستمول المشروع بالكامل خلال شهرين، وسيعطونه رشوة بكذا وكذا من الملايين إن قبل.
معروف أن عمر غول مقرب جدا من الرئيس الجزائري ويُخبره بكل ما يجري، غير أن هذا الإعلام المتبادل هل يكفي لتجنيب الانهيار بالنسبة لمشروع حيوي في الاقتصاد الجزائري؟ الجواب قطعا لا، لأن المؤسسات الدولية استنكفت عن القدوم بسبب غياب الضمانات، وبسبب سكوت الدولة “ظاهرا” على الأقل.
السبب من وجهة نظر جزائرية، بسيط وواضح، ذلك أن “الجميع” يحتاج إلى “الجميع” خلال الحملات الانتخابية، ومن غير المعقول أن يُـدار الظهر لمن ساعد بالأمس، فكان حل بوتفليقة هو الصمت وانتظار الوقت المناسب.
وربما كان للرجل ما أراد عندما زارت الجزائر بحر الأسبوع الأخير من شهر يونيو، السيدة بنيتا فريرو فالدنر، ممثلة الاتحاد الأوروبي للعلاقات الدولية، إذ أعلنت بمجرد وصولها إلى الجزائر بأن: “الاتحاد الأوروبي سيواصل دعم الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية في الجزائر”.
جاء هذا التصريح في إطار استعداد الجزائر والاتحاد الأوروبي للبدء في تنفيذ اتفاق الشراكة المبرم مع الاتحاد الأوروبي الشهر المقبل، علما أن رفع الرسوم الجمركية على السلع القادمة من أوروبا، سيكون مكتملا بعد اثني عشر عاما يجب أن توظف فيها الأموال الجزائرية لبناء نسيج صناعي “محترم” يقي الجزائريين فظائع غزو السلع الأوروبية للسوق المحلية دون وجود منافسة جدية.
وفي ندوتها الصحفية قبل مغادرتها الجزائر، شدّدت السيدة فريرو على فكرة دعم أوروبا لبرنامج الرئيس الجزائري المتعلق بالإصلاحات التي طال أمدها. لذلك اعتبر البعض أن زيارة المسؤولة الأوروبية تمثل مددا للفريق الرئاسي الذي سوف يستعين ببروكسل لمهاجمة معارضي الإصلاحات من الداخل.
إذت ستساعد أوروبا الجزائر، حسب تصريحات المسؤولة الأوروبية، في تطهير النظام البنكي وجعله شفافا، وسوف تخبر الجزائر بأفضل الطرق لتسيير الأموال المقترضة إداريا مع متابعة من يحاول التنصل أو التلاعب على القانون، بالإضافة إلى وضع نظام ضرائبي معقول لا يُنفر المستثمرين، جزائريين كانوا أم أجانب.
تبقى، وبسبب الظروف الداخلية المعقدة، إشكالية أخرى من نوع خاص وتتمثل في اعتماد الدولة على القطاع العام، وعلى نقابة الاتحاد العام للعمال الجزائريين المقربة منها، لتسيير الرأي العام، والتحكم عن بُعد في نتائج الانتخابات، لأن الانفتاح بما يتناسب، وتحدي بدء العمل باتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، سيُحجم دور القطاع الحكومي، ومن ثمة يُضعف من قبضة الدولة على المجتمع المدني والناخبين بشكل خاص.
“النسبة المتفق عليها”
حسب مصادر من وزارة الداخلية، يكون الحل في قانون البلدية والولاية، حيث ستدعم سلطات الوالي الذي يعينه رئيس الجمهورية أمام رئيس البلدية المنتخب، وسيكون الوالي مسؤولا عن أداء الشركات الاقتصادية عبر إلزامها باحترام القوانين.
نظريا، ستكون أمام الفريق الحكومي جهود هائلة لفضح من أسمتهم بالمجاهدين والفلاحين والتجار والصناعيين المزيفين الذين يستفيدون من أموال الدولة دون وجه حق، وبعد ذلك، يُطبق برنامج الإصلاحات الذي يرمي للوصول إلى الشفافية.
ثم ماذا عن النظام القضائي الذي ستُناط به مهمة محاربة الرشوة والفساد، متى سيُزود بالنصوص القانونية اللازمة؟ خاصة وأن تقارير حكومية داخلية عدة قد سجلت “حالات هائلة للرشوة بين القضاة”، و”أحكاما قاسية ضد أبرياء بسبب مصالح اقتصادية ضيقة”، والنتيجة هي أن عشرات القضاة يقبعون الآن وراء القضبان بسبب تشويههم لمهنتهم.
من الناحية الاقتصادية البحتة، ترى الخبيرة الاقتصادية، غنية عكازي، أن “الإصلاح البنكي قد طال أمده لأنه موجود على مكتب رئاسة الحكومة ووزارة المالية منذ أزيد من عشرة أعوام”. وتضيف عكازي لسويس إنفو: “الإصلاحات تسير ببطء شديد، وبالكاد سيتمكن الجزائريون من سحب أموالهم بالبطاقات الممغنطة بداية العام المقبل، ولست أدري كيف سيُدار ملف القروض الاقتصادية”.
وتواصل عكازي قائلة: “الحل ممكن من الناحية النظرية، وما بُذل من جهود في السنوات الست الماضية، لا يمكن الاستهانة به، يبقى أن ظاهرة الرشوة واختلاس المال العام، شبهتان تلاحق كل مسؤول في الدولة لأن من الخرافة تصور الفوز بأي مشروع اقتصادي تموله الحكومة دون دفع “النسبة المتفق عليها”.
ثمن النأجيل مُـكـلـف
ولسائل أن يسأل: “لماذا لا يحارب بوتفليقة ظاهرة الرشوة التي تمنعه من إقراض رجال الأعمال كما يجب، تماما كما يعمل على تنفيذ مشروع الوئام المدني”؟
لقد طُـرد رئيس اليوم من سرايا الدولة بسبب اتهامات بالاختلاس وُجهت إليه عام 1980 من القرن الماضي، أي بعد سنة واحدة من وفاة حاميه الرئيس الراحل هواري بومدين، ولم يسلم من هذا الاتهام إلى غاية عودته رئيسا للبلاد عام 1999، بل إن هناك من خصومه من يطالبه بـ “تفهم وضع بيته الزجاجي” ، أي أن “لا يرمي غيره بالحجارة”.
غير أن إمكانية العودة إلى المنطق والحق لا زالت قائمة، وهنا لا مجال للحديث عن “نهي عن المنكر”، لا بالقلب ولا باللسان، بل باليد وكفى. ذلك أن ثمن التهرب من الإصلاح وتأجيل القرارات الجوهرية سيكون باهظا ومُـكـلـفا وسوف يعني تحويل الجزائر برمتها إلى سوق ضخمة تختفي بموجب القواعد التي سيقوم عليها خيرات ما يسمى بالطبقة المتوسطة، والاستقلال الاقتصادي.
هيثم رباني – الجزائـر
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.