The Swiss voice in the world since 1935
أهم الأخبار
النشرة الإخبارية
أهم الأخبار
نقاشات
أهم الأخبار
النشرة الإخبارية

“وداعًا يا بلدي العزيز الجميل!”

علم الولايات المتحدة
وداعًا يا وطني: خمس راهبات من الرهبنة البندكتية غادرن إلى الولايات المتحدة لتأسيس دير هناك. الصورة لماركو هير / مدونة المتحف الوطني السويسري. رسم ماركو هير / مدونة المتحف الوطني السويسري

في أغسطس 1874، وانطلاقًا من دير ماريا ريكنباخ في كانتون نيدفالد، غادرت خمس راهبات سويسريات إلى الولايات المتحدة. في هذا المقال، نقلِّب صفحات من مذكّرات الأخت ماريا بياتريكس رينغلي (1848–1942)، وهي تروي تفاصيل هذه الرحلة.

تنشر سويس إنفو (Swissinfo.ch) بانتظام مقالات مأخوذة من مدوّنة المتحف الوطني السويسريرابط خارجي، تُعنى بمواضيع تاريخية. وتكون هذه المقالات متاحة دائمًا بالألمانية، والفرنسية، والإنجليزية.

على سفحٍ يرتفع 1200 متر، ويطلّ على قرية نيدريكنباخ في وادي إنجلبرغ بكانتون نيدفالد، يقع دير ماريا ريكنباخ. ويتبع هذا الدير الرهبنة البندكتية، وقد أسسته مجموعة من الراهبات عام 1857، ولا يزال حتّى يومنا هذا، مقصدًا للحجاج.

المزيد

وقد اتسمت فترة تأسيس الدير بصراع ديني وإيديولوجي. فآنذاك، بدأت الكنيسة الكاثوليكية تفقد سيطرتها على المجتمع والحياة العامة، أمام النهج الليبرالي الذي تبنّته الدولة القومية السويسرية الناشئة. وفي القرن التاسع عشر، حاولت الكنيسة استعادة السلطة، وإعادة بسط نفوذها. لكن لم تنته هذه المواجهة مع الدولة، المعروفة في التاريخ الألماني بمصطلح “صراع الثقافة” (Kulturkampfرابط خارجي )، بسهولة. فما كادت أن تهدأ نسبيًا بعد حرب زوندربوند عام 1847، حتى اشتعلت مجدّدًا بعد التعديل الشامل للدستور الفدرالي عام 1874رابط خارجي. وجاء الصدام هذه المرَّة، بسبب إضافة بنود استثنائية مناهضة للكاثوليكية، من بينها حظر إنشاء الأديرة أو ترميمها.

بداية القصة: هجرة راهبات سويسريات إلى الولايات المتحدة  

وفي ظلّ الصراع السياسي– الديني آنذاك، تصاعد الخوف بين العديد من الرهبان والراهبات من إغلاق الأديرة في سويسرا. لذا، هاجر بعضهم.نّ إلى الولايات المتحدة بهدف تأسيس أديرة جديدة تُشكّل ملاذًا آمنًا. ففي عام 1873، غادر الأبوان، فروين كونراد (1833–1923) وأدلهلم أودرمات (1844–1920)، دير إنغلبرغ متجهَيْن إلى الولايات المتحدة. وهناك، أسّسا ديريْن بندكتِيّين في ماريفيل وكونسيبشن، شمال شرق ولاية ميسوري. وبعد وقت قصير، طلبا دعم راهبات دير ماريا ريكنباخ للقيام بأعمال خيرية، ورعاية الفتيات الشابات، وتعليم الأطفال اللغة الألمانية.

ورحّب دير ماريا ريكنباخ بطلب الأبوين كونراد وأودرمات، لاسيَّما لإتاحته الفرصة لتأسيس أديرة جديدة في الولايات المتحدة. وهكذا، أصبح دير ماريا ريكنباخ أوّل دير نسائي كاثوليكي سويسري يتأسس خارج القارة الأوروبية. وبين عامي 1874 و1891، هاجرت 27 راهبة، ونحو خمسين راهبة في مرحلة الطلب (لم يقدمن النذور)، إلى الولايات المتحدة. وعملن في مجالات التعليم، والرعاية الاجتماعية، والخدمات الخيرية لصالح الكنيسة الكاثوليكية. وكان من بينهن راهبات شاركن في بعثات تبشير بين السكان الأصليين.

تخوض الراهبة عدّة مراحل قبل النذور النهائية. وتبدأ بمرحلة الطلب (Postulat)، وهي فترة تمهيدية تستمر نحو عام، تهدف إلى تعريف المتقدّمة بأسلوب الحياة داخل الجماعة البندكتية. وفي ختام هذه المرحلة، ترتدي المتقدّمة الثوب الرهباني وتنتقل إلى مرحلة الابتداء (Noviciat). وبعد عام من التكوين الروحي والعملي، تنذر نذورها المؤقتة، ليصبح راهبة معلنة (Professe).

وكان من المفترض أن تساهم الراهبات البندكتيات في نشر الإيمان المسيحي وتعزيزه في الولايات المتحدة، ودعم نهضة جديدة للكنيسة الكاثوليكية. وكان هذا الطموح سببًا في توسّع الإرساليات الكاثوليكية على نطاق واسع، خلال القرن التاسع عشر. وإلى جانب نشر التعاليم الدينية، شعرت كثيرات من الراهبات أنهنّ مدعوات أيضًا إلى “تمدين” الشعوب الأصلية، متأثرات بنظريات التطور والإحساس بالتفوّق الأوروبي. وغالبًا ما أدّت محاولات فرض الثقافة المسيحية والأوروبية على المجتمعات الأصلية، إلى تدمير هويّاتها الثقافية والروحية.

من نيدريكنباخ إلى ماريفيل  

في 17 أغسطس 1874، غادرت الراهبات بياتريس رينغلي (1848–1942)، وأنسيلما فيلبير (1843–1883)، وأنياس دالي (1839–1915)، وأغوستينا كونديغ (1851–1879) دير ماريا ريكنباخ.
وفي مذكرات الرحلة، تروي بياتريكس رينغلي، بأسلوب مؤثّر، لحظات وداع الوطن، والقفز نحو المجهول في الولايات المتحدة. وقد نُشرت هذه المذكّرات بعد عام في نسخة كاملة، ثم على شكل سلسلة من المقالات في مجلّة Nidwaldner Volksblatt.

راهبات سويسرات إلى الولايات المتحدة
صورة الغلاف من مذكرات سفر بياتريكس رينغلي. محفوظات كانتون نيدفالدن.

وبعد توديع الراهبات قرية نيدريكنباخ، توجّهن بعربة إلى لوسيرن. ومنها، ركبن القطار مع مجموعة من المهاجرين والمهاجرات، نحو لوهافر مرورًا ببازل، وباريس. وفي مذكراتها، كتبت بياتريكس رينغلي عن تفاصيل هذه المرحلة الأولى من الرحلة ووصفت المشاهد الطبيعية، والتفاعل بين أفراد المجموعة، والمعالم المزارة في باريس، مثل متحف اللوفر، وقوس النصر، وبعض الأماكن الدينية.


راهبات سويسريات إلى الولايات المتحدة
مهاجرات ومهاجرون في قطار تابع للشركة العامة العابرة للأطلسي يتجه إلى ميناء لو هافر. لوحة من عام 1883. Britannica Imagequest, Lebrecht Music & Arts

وفي 21 أغسطس 1874، غادرت المجموعة ميناء لوهافر على متن سفينة “أودر”، البخارية التابعة لشركة الشحن البحري الألمانية “نورد دويتشر لويد”. ووصفت بياتريكس رينغلي الأجواء السائدة على سطح السفينة، وتحدثت عن مشاهد الوداع الملوَّنة بمشاعر متناقضة؛ فتارةً الحزن والكآبة، وأخرى الفرح والانشراح. أما هي، فلم تشعر بألم الفراق في تلك اللحظة، إذ كانت قد ودّعت بلدها وأحبابها قبل أيام.

الرحلة عبر الأطلسي

في بازل […]، أخذنا إجازة من وطننا الغالي، من بلد المراعي الجبلية، من هذا البلد الغني بالأماكن المقدّسة التي تشكّل مصدرًا لفيض لا ينضب من النعم المقدّسة! وداعًا يا بلدي الجميل! وداعًا يا وطني العزيز! وداعًا يا أمّي ويا أخواتي! ليحفظ الله هذا البلد الذي قد لا نراه مجددًا، وكلّ عزيز وعزيزة سيفصل بيننا الفراق إلى الأبد!    

من مذكرات بياتريكس رينغلي  

   وخصّصت بياتريكس رينغلي جزءًا كبيرًا من مذكراتها لتوثيق الرحلة عبر الأطلسي، وقدّمت بذلك لمحة عن الحياة في عرض البحر، وتحدّثت عن امتيازاتها كمسافرة في الدرجة الثانية. ولم تخلُ مذكراتها من روح الدعابة، فقد وصفت مذاق القهوة على متن السفينة بأنه “أداة لتعذيب المعدة”. وإلى جانب وصف سفينة “أودر” التفصيلي، تحدثت أيضًا عن مخاطر عبور المحيط وتحدّياته. وذكرت، مثلاً، دوار البحر المصيب لعدد كبير من الركاب، ومن بينهم الراهبات، والمتفاقم بسبب سوء الأحوال الجوية. واسترجعت مشاهد الأمواج المرتفعة التي شبّهتها بالجبال، وشعورهن بالبرد القارس. ووصفت أيضًا عمّا انتاب المسافرات السويسريات من مشاعر الخوف الشديد من الغرق في المحيط، تحت رحمة قوى الطبيعة.

ودوّنت بياتريكس رينغلي في مذكّراتها حوادث استثنائية أخرى من الرحلة، منها تعرّض سفينة شحن لعاصفة كادت أن تُغرقها! لولا تدخّل طاقم “أودر”، وإنقاذها.

راهبات سويسريات إلى الولايات المتحدة
أبحرت سفينة “أودر” (Oder) لمدة عامين عبر الأطلسي، وكانت أول باخرة تُستخدم لنقل البريد لصالح الإمبراطورية الألمانية. وفي عام 1887، ارتطمت بحاجز صخري أثناء مغادرتها ميناء شانغهاي، ما أسفر عن وفاة أربعة من أفراد طاقمها. وقد تم إنقاذ 111 من أفراد الطاقم و61 راكبًا وراكبة. Wikimédia

ووصفت بياتريكس رينغلي، دون مغالاة، وفاة أحد العاملين في غرفة المحرّكات، بعدما أُصيب بنزلة برد حادّة. وتحدّثت عن حزنها العميق، كراهبة مؤمنة، حين أُلقي جثمانه في البحر دونَ مراسم أو صلاة.

ورغم هذه التجارب التي لا تشبه الحياة اليومية في الدير، وصفت الراهبة عبور الأطلسي في مذكراتها بصورة إيجابية.  ولم يقتصر هذا الانطباع على الامتيازات التي حظيت بها على متن السفينة. إذ سردت، بأدقّ التفاصيل، كيف أمضى الركاب والراكبات الوقت مع عودة الطقس الدافئ، أي من تاريخ 29 أغسطس 1874. وذكرت أن المسافرين، رجالًا ونساءً، كانوا يجتمعون عند جسر القيادة المفتوح، للهو والدردشة، أو الاستمتاع بمشاهدة الأفق، وزرقة المحيط العميقة، والحياة البرية التي كانت تظهر أحيانًا في عرض البحر. ولعلَّ هذا الوصف الإيجابي لم يكن مجرّد انطباع شخصي، بل محاولة لتصوير الرحلة والهجرة على أنها تجربة مُشجّعة، قد تُغري الراهبات الباقيات في دير ماريا ريكنباخ.

وصول الراهبات السويسريات إلى الولايات المتحدة

في المقابل، بدت نظرتها لنيويورك رابط خارجيسلبية بعض الشيء. ففي 31 أغسطس 1874، رست سفينة “أودر” على ضفة نهر هدسون، ووطأت أقدام الراهبات الأرض الأميركية للمرّة الأولى. وهناك، شعرت الأخت بياتريكس بالصدمة من ضخامة المدينة، وبتيهها وسط الصخب والضجيج، وانتابها حنين قوي إلى سكون الدير وصفائه.

راهبات سويسريات إلى الولايات المتحدة
كتبت بياتريكس رينغلي عن انطباعها الأول عن مدينة نيويورك: “ديرنا العزيز، كم استذكرناك باستمرار، ماريا ريكنباخ! ما هذا التناقض؛ هناك عزلة هادئة، وهنا صخب وضجيج؛ هناك كنيسة صغيرة يتلو فيها المؤمنون والمؤمنات الصلوات، وهنا لا ورع ولا خشوع؛ هناك حياة زاهدة هنيئة، وهنا مطاردة دائمة خانقة وراء التملك والمتعة؛ هناك الملاذ الآمن لأخواتنا، وهنا عالم مجهول الوجه وغريب اللغة!”. Wikimédia

وما لبث ذلك الشعور أن تحوَّل فرحة عند مغادرة مجموعة الراهبات نيويورك بعد مرور يومين، وتوجُّههنّ بالقطار إلى ماريفيل، مرورًا بسان لويس (ميسوري). وفي 5 سبتمبر، وصلت الراهبات أخيرًا إلى وجهتهن، بعد رحلة دامت 20 يومًا. ووصفت بياتريكس رينغلي مدينة ماريفيل بالبسيطة جدًا؛ فالكنيسة متهالكة وقديمة، والأطفال ترعرعوا في البرية دون تعليم. ولكنّها شدّدت على حسّ المساعدة، والمحبة، والورع لدى السكان. وذكرت أنّ الجميع “يحترم اللباس الديني ويحبّه، دون أي شعور بالخوف”، في إشارة إلى الصراع السياسي – الديني في سويسرا.

وأيضًا، تصف بياتريكس، بأدق التفاصيل، التناقضات بين ثقافتها الأصلية وثقافة السكان الأصليين، وبين الوطن الذي غادرته والبلد الجديد الذي وصلت إليه. ويعكس هذا الوصف ما واجهته النساء، في هذه الأرض الجديدة، من مواقف لم تكن مألوفة لديهن. وفي مقارناتها، غالبًا ما اعتبرت الراهبة البندكتية الدير الأمّ مرجعًا، في محاولة للربط بين تجاربها الجديدة وحياتها السابقة في سويسرا. وقد يكون ذلك بدافع الحنين إلى الوطن، أو رغبةً في التواصل مع القرّاء والقارئات في سويسرا، ونقل تجربتها إليهم.نّ.

من الألمانية إلى الإنجليزية

لكن شكّل التواصل في هذه الأرض الجديدة تحدي الراهبات الوافدات الأكبر، بسبب عدم إلمامهنّ باللغة، ما حتّم عليهن التخلي عن مشروع افتتاح مدرسة ألمانية في ماريفيل، والتركيز، بدلًا من ذلك، على تعلُّم اللغة الإنجليزية. وقد واجهت بعض الراهبات صعوبة في التكيف مع الثقافة الجديدة واللغة الأجنبية، على عكس بياتريكس رينغلي، المتعلّمة للإنجليزية بسرعة، والبادئة للتدريس بعد وقت قصير من وصولها. لكن دفعها خلاف داخل المجموعة إلى مغادرة ماريفيل، برفقة الراهبتين، أديلا وأنسيلما. وانتقلن إلى مدينة كونسيبشن المجاورة، حيث تولّين إدارة مدرسة محلية.

راهبات سويسريات في الولايات المتحدة
صورة لراهبات دير مارياشتاين في بوكاهونتاس عام 1892 Google Books

وبعد سنوات من هجرتها، عادت بياتريكس رينغلي في صيف عام 1889 إلى نيدريكنباخ لفترة قصيرة، لإحضار مزيد من الراهبات ومرافقتهن في رحلتهن إلى الولايات المتحدة. وآنذاك، كانت تشغل منصب الأمّ الرئيسة في دير مارياشتاين المؤسّس بين عامي 1887 و1888، في بوكاهونتاس (أركنساس). وفي نوفمبر من العام نفسه، كتبت الأخت كلارا هاوس (1841–1902) مذكّراتها عن تلك الرحلة، ويبدو أنها كانت مستوحاة من سيرة الأخت بياتريكس.

تدرس ياسمين غوش التاريخ والأنثروبولوجيا الاجتماعية في مرحلة الماجستير بجامعة برن.

المقالة الأصلية على مدونة المتحف الوطني السويسريرابط خارجي

ترجمة: ناتالي سعادة

مراجعة: ريم حسونة

التدقيق اللغوي: لمياء الواد

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية