محكمة سويسرية تمهّد لمسار قضائي في دعوى مناخية إندونيسية ضد هولسيم
في يوم الاثنين 22 ديسمبر، اتخذت محكمة سويسرية قرارًا غير مسبوق بقبول النظر في قضية أثارت اهتمامًا عالميًا واسعًا. فقد قام ثلاثة رجال وامرأة من جزيرة بولاو باري الإندونيسية برفع دعوى مناخية ضد شركة هولسيم السويسرية. وتتهم هذه المجموعة شركة الإسمنت السويسرية بالمساهمة في تغيّر المناخ الذي يهدد مستقبل الجزيرة. في هذا التقرير، يسلط مراسل سويس إنفو الضوء على تفاصيل القضية من قلب الجزيرة التي تواجه خطر الزوال.
من جاكرتا، انطلقنا في رحلة استغرقت ساعة بالقارب، ثم سرنا 5 دقائق إلى بيت ضيافة متواضع وسط جزيرة بولاو باري. جزيرة صغيرة ومعزولة، لكنها باتت اليوم طرفًا في دعوى مناخية ذات أصداء دولية.
وحال وصولنا إليها، لفتت أنظارنا لافتات تدعو إلى “إنقاذ الجزيرة”. وفي بيت الضيافة، تقف إيبو أسمانيا، مديرة المكان، أمام موقد تقلي بضع حبات من الموز. وهي أيضًا صاحبة أول دعوى مناخية تُرفع في سويسرا، ضد شركة هولسيم للإسمنت.
صباح هذا الأربعاء هذا من شهر أكتوبر، اكتظَّت شرفة بيت الضيافة بالناس. وكان بين الحضور صحفية، ومصور من قناة تلفزيونية إندونيسية، وممثلان من منظمة محلية غير حكومية. وعلقت الصحفية الشابة بحماس: “جئنا لنروي القصة نفسها”.
في 22 ديسمبر2025، أعلنت منظمة الإغاثة البروتستانتية ( HEKS) غير الربحية، التي تدعم قضية جزيرة باري الإندونيسية في 22 ديسمبر أن محكمة كانتون تسوغ قد قضت بأن الدعوى القضائية التي رفعها أربعة من سكان الجزيرة مقبولة. وهذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك في سويسرا. ولم تعلق المحكمة بعد على ما إذا كانت شركة هولسيم مسؤولة عن عواقب تغير المناخ في الجزيرة أم لا. وأقرت شركة هولسيم في بيان لها بأن المحكمة قد قبلت القضية، وأعلنت أنها تعتزم الاستئناف.
وفي عام 2023، رفعت إيبو أسمانيا، إلى جانب موستغفرين وعارف بوجيانتو، وإيدي موليونو، دعوى مدنية أمام محكمة تسوغ ضد شركة هولسيم، بدعوى «انتهاك الحقوق الشخصية» نتيجة مساهمتها في تغيّر المناخ.
وتطالب الدعوى شركة الإسمنت، ومقرها تسوغ، بتعويض عن الأضرار الناجمة عن تغيّر المناخ، والمساهمة في تدابير الحماية من الفيضانات، إلى جانب خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. ويبلغ التعويض المطلوب 3،600 فرنك سويسري لكل شخص، أي ما مجموعه 14،700 فرنك سويسري.
الرهان كبير. فهذه المرة الأولى التي يرفع فيها أشخاص أجانب دعوى مدنية ضد شركة سويسرية، بسبب دورها في تغيّر المناخ. وقد تُشكّل هذه القضية، سابقةً لرفع دعاوى مماثلة، في سويسرا، وفي العالم.
وشارك شخصان من فريق الادعاء في جلسة استماع تمهيدية، انعقدت في محكمة تسوغ، في شهر سبتمبر، للنظر في مقبولية الدعوى. ومن المتوقع صدور حكم فريق القضاة، المقتصر على المسألة الإجرائية دون التطرق إلى جوهر القضية، قريبًا.
وقبل ذلك، قدَّم الادعاء طلبًا أمام قاضي الصلح في كانتون تسوغ. لكن بعد رفض شركة هولسيم دفع أي تعويض، باء المسعى بالفشل.
وبحسب معهد المساءلة المناخية، شركة هولسيم، الرائدة عالميًّا في إنتاج الأسمنت، من بين 80 شركة، الأكثر تسببًّا في انبعاثات ثاني أكسيد الكربونرابط خارجي، منذ عصر ما قبل الصناعة.
ولم يعد حضور وسائل الإعلام، بما فيها الأجنبية، أمرًا مستغربًا في هذه الجزيرة الخلابة، البالغ عدد سكانها 1،500 نسمة. فتُعدّ دعوى أربعة من أبناء هذه المنطقة وبناتها، المرفوعة ضد شركة الإسمنت العملاقة في تسوغ، سابقةً تاريخية، وقد تُمهّد الطريق لإجراءات قانونية مماثلة في سويسرا، وأماكن أخرى من العالم.
وتقع جزيرة بولاو باري نحو 40 كيلومترًا شمال غرب العاصمة الإندونيسية، جاكرتا. ولا تسهم أنشطة سكانها، المعتمدة أساسًا على صيد الأسماك والسياحة، في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري إلا بقدر ضئيل. ومع ذلك، تتحمّل، مثل غيرها من الجزر الصغيرة حول العالم، نصيبًا كبيرًا من أضرار تغيّر المناخ. ويواجه سكانها يوميًّا آثار ارتفاع منسوب مياه البحر، وتدهور النظام البيئي البحري، وتقلبات الطقس المتزايدة.
تقول إيبو أسمانيا: “يؤثر تغيّر المناخ فينا بشدة. لقد حافظنا دائمًا على جزيرتنا. لكننا اليوم نتحمّل عواقب انبعاثات غازات الاحتباس الحراري الصادرة عن شركات متعددة الجنسيات، مثل هولسيم. وهذا ظلم”.
ولهذا السبب، قررت إيبو أسمانيا وثلاثة من سكان الجزيرة السفر إلى سويسرا لرفع دعوى مدنية ضد شركة هولسيم، على خلفية ما يعتبره الادعاء مسؤوليتها الجزئية عن أزمة المناخ. وتطالب الدعوى بتعويض عن الأضرار قدره 14،700 فرنك سويسري، والمساهمة في تدابير وقائية، إضافة إلى خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
زراعة الطحالب باتت مستحيلة
بعد الإفطار، قادتنا إيبو أسمانيا، البالغة من العمر 42 عامًا، إلى غرفة معيشتها، حيث لا يكسر هدوء المكان سوى أزيز مكيّف الهواء. وعلى رفوف المكتبة، تصطف صور مؤطرة من زيارتها الأخيرة إلى سويسرا، تظهر فيها أمام القصر الفدرالي في برن برفقة مجموعة برلمانيين وبرلمانيات، أبدت تعاطفًا مع قضيتها.
وبعد شهر من عودتها، لا تخفي هذه الأم لثلاثة أطفال قلقها، و“تنتظر بفارغ الصبر” الأخبار الواردة من محكمة تسوغ.
وعلى عكس المدعين الآخرين، لم تنشأ أيبو أسمانيا في جزيرة باري، بل في مدينة بيكاسي، شرقي جاكرتا. ومع ذلك، لا تخفي أسفها إزاء التغيّرات التي شهدتها الجزيرة في السنوات الأخيرة.
وتستعيد المرأة ذكرياتها عند انتقالها إلى الجزيرة برفقة زوجها تونو، الذي تزوّجته عام 2005. وتقول: “حين وصلت، كانت بولاو باري جزيرةً تعيش على صيد الأسماك”.
آنذاك، كانت جزيرة بولاو باري تشتهر بزراعة الأعشاب البحرية، وتصديرها دوليًّا لتكون مصدر دخل رئيسي للسكان. وكانت هذه الأعشاب تُستخدم، بعد معالجتها، في صناعات غذائية ودوائية. لكن لم يعد هذا النشاط ممكنًا اليوم.
وتتذكر قائلةً: “في السابق، كانت الأعشاب البحرية ذات جودة عالية للغاية. أما الآن، وبسبب ارتفاع درجة حرارة البحر، يتحول لونها، إلى الأبيض، وتموت بعد أسبوع”.
وأمام تراجع زراعة الطحالب، اضطرت قرية إيبو أسمانيا، مثل غيرها من القرى، إلى التحول إلى السياحة، منذ عشر سنوات.
ظروف الصيد الصعبة
في المساء، على شرفة دار الضيافة، حيث يجتمع عدد من المدعين وأقاربهم يوميًا، التقينا موستغفرين. وكان هذا الصياد والزعيم الديني، بشعره الرمادي الطويل المنسدل على وجهه، قادما لتوه من يوم طويل تخللته الصلوات، والرحلات البحرية.
ويتذكر الرجل الخمسيني، الذي يعرفه الجميع باسم “بوبي”، أيامًا جميلة. ويقول: “مع تغيّر المناخ، لم تعد حياتنا اليومية كصيادين، كما كانت”.
ويوضح أنّ الصيد في المياه القريبة لم يعد مجديًا. ولذلك، يضطر الصيادون إلى قطع مسافات بعيدة، أحيانًا عشرات الكيلومترات، للحصول على نفس كميات صيدهم قبل عشرين عامًا، ما يزيد من خطورة العمل.
ويقول بوبي: “كثيرًا ما نتعرض لظروف جوية سيئة”. فقبل أربع سنوات، كادت الأمواج تودي بحياته، حين حطّمت موجة عاتية قاربه، وألقته في البحر. ولحسن الحظ، كان زميل له قريبًا منه، وتمكَّن من إنقاذه.
يروي بوبي ما حدث وهو متربّع على كرسيه، يلوّح بيديه لمحاكاة سباحته اليائسة وسط العاصفة. واليوم يضحك هو وعائلته على ما جرى، لكن كاد الحادث ينتهي بمأساة.
ويضيف قائلًا: “شارفت على الغرق مرتين منذ ذلك الحين. هذا ما يحدث لغيري أيضًا؛ لم نعد قادرين على توقّع تغيّر الرياح”. ورغم التحديات وقلق الأحبة، لا يرى بوبي لنفسه حياة بعيدًا عن البحر. ويقول: ” نعيش بحرية تامة. بمجرد أن تختبر هذا، يصعب تخيُّل حياة مختلفة. وإذا عمل الجميع في مكتب، أو في موقع بناء، فمن سيضع السمك على المائدة؟”.
السياحة كبديل
على غرار إيبو أسمانيا ودار ضيافتها، اتجه العديد من سكان الجزيرة إلى السياحة، التي اعتمدتها جزيرة باري عام 2010. لكن مستقبل هذا النشاط مهدد أيضًا. والسبب: تآكل الشاطئ، الناجم عن ازدياد قوة المد والجزر.
يقف عارف بوجيانتو على حافة الشاطئ، ويلقي نظرة ثابتة على «شاطئه»، شريط مثالي من الرمال البيضاء عند طرف الجزيرة الغربي، يعتني به إلى جانب عمله كميكانيكي.
يقول بمرارة: “قضم البحر تسعة أمتار من الشاطئ، في خمس سنوات”. ووفقًا لمنظمات غير حكومية، فقدت جزيرة باري حوالي 10% من مساحتها السطحية، وقد تختفي أجزاء كبيرة منها تحت الماء بحلول عام 2050. ويضيف عارف: “لحسن الحظ، لا تزال الجزيرة تستقطِب الزوار، رغم الأضرار اللاحقة بالشاطئ”.
وفي عطلات نهاية الأسبوع، تستقبل هذه الجزيرة الصغيرة نحو ألفي زائر وزائرة. وتأتي الغالبية من إندونيسيا، لا سيّما من جاكرتا، بحثًا عن استراحة من صخب المدينة. وخلال المهرجانات الكبرى، قد يرتفع العدد، وفق تقديرات حارس الشاطئ، إلى نحو عشرة آلاف شخص في أسبوع واحد.
ومنذ عدة سنوات، يمتدُّ تهديد المدّ من الشاطئ إلى المنازل أيضًا. ففي العام الماضي، دخلت مياه البحر منزل عارف بوجيانتو، الواقع على بُعد نحو ثلاثين مترًا منه، مُلحقة أضرارًا جسيمة بالأثاث، والجدران، وأساسات البيت.
ولمواجهة تآكل السواحل والفيضانات، شيَّدت الجزيرة سدودًا صغيرة، وبدأ السكَّان بزراعة أشجار المانغروف، بدعمٍ جزئي من عائدات السياحة. لكن تبقى هذه الجهود محدودة. إذ تشير الدعوى إلى الحاجة لبذل المزيد، مع مطالبة شركة هولسيم بالمساهمة في ذلك.
+ اقرأ.ي أيضًا: تقريرنا من جاكرتا، التي تغرق تدريجيًا مع ارتفاع منسوب المياه:
المزيد
جاكرتا التي تغمرها المياه تصارع من أجل البقاء
أي مستقبل ينتظر الجزيرة؟
يسود قدر من التفاؤل في الجزيرة. وتحظى الدعوى بدعم واسع، كما يتّضح من كثرة الأعلام الداعية إلى “العدالة المناخية” المرفوعة على أسطح المنازل، في كل أنحاء الجزيرة.
ويأمل كثيرون.ات في بولاو باري في إصدار المحاكم السويسرية حكمًا لصالح الدعوى. كما يدرك الجميع إمكانية تحوّل القضية إلى نموذج يقتدي به سكّان جزر صغيرة أخرى، تواجه المصير نفسه في ظل تغيّر المناخ.
ووفقًا للبنك الدولي، قد يضطر نحو 48 مليون شخص في منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ، التي تضم إندونيسيا، إلى مغادرة منازلهم بحلول عام 2050، بسبب الكوارث المناخية.
وعند ميناء الصيد، يجلس المدعي الرابع، إيدي موليونو، على كرسي قريب من البحر. ويقرّ قائلًا: “أكثر ما يقلقني هو مستقبل أطفالي”. ثم يُلقي نظرة على ابنه ذي الخمس سنوات، المنهمك في اللعب على جدار بحري صغير لحماية المنازل المحيطة، ومنها منزل العائلة. ويقول: “إذا خسرنا هذه المعركة، فلن يتمكن أطفالي ولا أحفادي من العيش في جزيرة بولاو باري”.
تحرير: فيرجيني مانجين
ترجمة: مصطفى قنفودي
مراجعة: ريم حسونة
التدقيق اللغوي: لمياء المواد
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.