مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

هل يمكن أن تؤدي الحرب في أوكرانيا إلى زوال الأمم المتحدة؟

دانيال فارنر، كاتب ومحلل سياسي

هل ستنُهي الحرب في أوكرانيا الأمم المتحدة تماما كما أنْهَت الحرب في إثيوبيا عُصبة الأمم؟ بينما يمكن العثور على أوجُه تَشابه بين الحَدَثين، فإن الأمم المتحدة لا تزال قوية - في الوقت الحالي - كما يقول المُحلل والعالم السياسي دانيال فارنَر.

أثار وجود سويسرا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة اهتماما خاصا بدور هذه المنظمة الدولية في حالات الصراع، كما في الحرب الروسية الأوكرانية الدائرة حتى الآن. وتُظهِر لنا الأحداث التاريخية سابقًة لِمنظمة دولية عالمية حاولت التعامل مع عدوان صريح لكنها لم تفلح في ذلك.

ففي ثلاثينيات القرن العشرين، فشلت عصبة الأمم (1920-1946) في وقف ضَم إثيوبيا إلى مملكة إيطاليا، وهو ما كان سببا رئيسيا في اندثارها. والسؤال المطروح الآن؛ هل سيكون اخفاق الأمم المتحدة في وقف القتال في أوكرانيا سببا في تفكُك مؤسسة عالمية للمرة الثانية؟

“لقد تم تحذير الأمم المتحدة من عواقب عَدَم وقْف القتال”. كانت هذه هي كلمات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عندما خاطب مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في 5 أبريل 2022: “نحن نتعامل مع دولة [روسيا] تُحَوِّل حَقّ النَقْض في مجلس الأمن الدولي إلى حق مُكتسب وحَق للقتل، وهذا يقوض بُنية الأمن العالمي بِرُمتها … وإذا ما استمر الأمر على هذا المنوال… يمكن حَلّ الأمم المتحدة ببساطة”، كما قال.

بعد مضي 15 شهرًا على غزو القوات المسلحة الروسية لأوكرانيا، لم تتمكن الأمم المتحدة من وضع حدٍّ للقتال، أو حتى التوسط في وقف إطلاق النار. وهي في الواقع لم تفعل أكثر من شَجْب الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، والتحسُّر على الخروق الجسيمة للقانون الإنساني الدولي.

صحيح أن المحكمة الجنائية الدولية أصدرت مذكرة توقيف بِحَق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتهمة ارتكاب جريمة حرب في أوكرانيا، لكن هذا لم يؤدِ إلى عواقب واضحة على سلوكه في الحرب. كما لم يكن للعقوبات الدولية المختلفة أي تأثير في وَقف هذا الغزو.

هناك سابِقة لِعَجز الأمم المتحدة عن وقف القتال. وفي ذلك الوقت، ترتب عن ذلك عواقب مؤسسية كارثية. لقد حاولت عصبة الأمم فَرضْ عقوبات اقتصادية على إيطاليا، لكنها لم توقف الغزو الإيطالي لإثيوبيا. بالإضافة إلى هذا الاعتداء العسكري غير القانوني، استخدمت إيطاليا أيضاً الغازات السامة المحظورة لِكَسر شوكة المقاومة الإثيوبية – مع الإفلات من العقاب، تماما كما يواصل الروس اليوم انتهاك حقوق الإنسان الأساسية والقوانين الإنسانية، من خلال قصف الأهداف المدنية والترحيل القسري للأطفال دون عقاب يُذكَر.

في ذلك الوقت، كانت هناك تحذيرات لعصبة الأمم بشأن مستقبلها. فبعد ضم إيطاليا [أحد الأعضاء الأربعة الدائمين في المجلس التنفيذي لعصبة الأمم] لإثيوبيا في أكتوبر 1935، جاء إمبراطورها هيلا سيلاسي إلى جنيف لإلقاء خطاب تاريخي في جمعية عصبة الأمم. وخلال خطابه، أكد سيلاسي على أهمية القرار الذي تواجهه الدول الأعضاء، وقال أن آثاره ستكون أكبر من مجرد دَعم بلاده أو عَدَم دَعمها. “أنا أؤكد أن المشكلة المعروضة على المجلس (…) لا تتعلق بمجرد إيجاد حل للعدوان الإيطالي، لكن بالأمن الجماعي بأكمله. إنه يتعلق بوجود عصبة الأمم ذاتها”.

لكن تحذيرات سيلاسي لم تمنع الدول الأعضاء من التصويت لصالح إنهاء العقوبات المفروضة على إيطاليا منتصف عام 1937. وقد شكَّل هذا القرار ضربة قاضية للعصبة. وكما علَّق رئيس الوزراء البريطاني السابق ونستون تشرشل، بأن عصبة الأمم “لم تفشل بسبب مبادئها أو مفاهيمها، ولكنها فشلت لأن الدول التي أنشأت تلك المبادئ تَخَلَّت عنها، ولأن حكومات تلك الدول لم تجرؤ على مواجهة الحقائق والتصرُّف بينما كان لا يزال هناك بعض الوقت”.

اليوم، يمكن مقارنة الحرب الإيطالية الإثيوبية بالصراع في أوكرانيا. وعلى الرغم صعوبة المقارنات التاريخية، لا يزال بالإمكان عقد مقارنات بين إخفاقات عصبة الأمم ومنظمة الأمم المتحدة في وقف العدوان.

كان أحد أسباب فشل عصبة الأمم في التحرك خلال أزمة الحبشة (أثيوبيا اليوم) هو الافتقار إلى القيادة السياسية. وعلى عكس الأمم المتحدة اليوم التي تضم في عضويتها أكثر من 190 دولة، لم تكن عصبة الأمم منظمة دولية عالمية، كما لم تَنضم الولايات المتحدة إليها قط. [ضمت العصبة في ذروتها في الفترة بين عامي 1934 و1935 قرابة 58 عضوا فقط]. وقد تَبَنَّت واشنطن موقفا غامضا تجاه جنيف على مر السنين، تأرجح بين العداء الصريح والتعاون السري.

لماذا لا ينبغي على سويسرا أن تتوجّس كثيراً بشأن صورتها العالمية

مع ذلك، وعلى الرغم من تأثر المصداقية السياسية للعصبة بِعَدَم انضمام الولايات المتحدة إليها، إلا أنَّ الافتقار إلى القيادة الأمريكية لم يكن السبب الوحيد في زوالها. وفي الواقع، كان عدم التعاون الجماعي بين فرنسا وبريطانيا هو العامل الرئيسي الذي أثَّر على عمل العصبة. وكان نشاط عصبة الأمم قد أُصيب بالشلل في الفترة التي سبقت الغزو الإيطالي للحبشة، بسبب قرار فرنسا وإيطاليا فتح محادثات منفصلة. وقد أدى الاحتكاك بين باريس ولندن إلى تقويض فاعلية الجهود المتعددة الأطراف التي بُذِلَت في جنيف. وحينها، أعطت كل من باريس ولندن الانطباع بأنهما مستعدتان لتلبية رغبات إيطاليا وإيجاد حل خارج عصبة الأمم، تماما كما تفعل بكين اليوم باقتراحها خطة سلام خارج نطاق الأمم المتحدة.

من أسباب إخفاق عصبة الأمم أيضاً بعض العيوب والثغرات في ميثاقها وديباجتها والمواد الـ 26 التي تحدد مهامها الرئيسية، وهو ما جعلها عاجزة عن العمل كأداة فعالة لصون السلم والأمن. فالميثاق لم يحرِّم الحرب نهائيا؛ وقرارات الأجهزة الرئيسية للعصبة لم تكن مُلزمة، كما كانت الأحكام غالبا مفتوحة للتأويل. وبعبارة أخرى، جاء الميثاق مائعاً ولم يكن قاطعاً فيما يتعلق بتطبيق الجزاءات عند حدوث انتهاك. وبالمقارنة، فإن حقيقة تمتع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بحق النقض (الفيتو) تقوض أيضا قدرة المجلس على التحرك عندما ينتهك أحد أعضائه الخمسة مبادئ الميثاق.

على الرغم من أوجه الضعف في ميثاق عصبة الأمم، لكنه كان يوفر بعض الآليات للحفاظ على السلام؛ مثل اعتماد عقوبات سياسية واقتصادية ومالية. كانت أكثر من 50 دولة عضو قد تَبَنَّت عقوبات اقتصادية ضد روما. مع ذلك، كانت هذه العقوبات موضوع مفاوضات، ولم تكن كافية لوقف العمليات العسكرية الإيطالية، مثلما لم تكن العقوبات ضد موسكو فعّالة في تغيير العدوان الروسي. وقد نوقشت مسألة إصلاح ميثاق الأمم المتحدة، بما في ذلك تَمديد عضوية مجلس الأمن، أو تقييد حق النقض للأعضاء الدائمين مرارا وتكرارا، ولكن دون جدوى.

وبغية تجنب المواجهة المباشرة مع إيطاليا، اختارت القوى العظمى فَرض عقوبات خفيفة لا يمكن أن تكون فعالة إلا على المدى الطويل. من هذا المنظور، أظهر تاريخ عصبة الأمم بالفعل مدى صعوبة التصرف عندما تكون قوة عظمى متورطة بشكل مباشر في نزاع ما. بالمقارنة، أدى حق النقض الروسي الحالي في مجلس الأمن، بالإضافة إلى عدم وجود قوة عسكرية دائمة تابعة للأمم المتحدة، إلى تكرار المشاكل المؤسسية للمنظمة الدولية.

لا يمكن إختزال زوال عصبة الأمم إلى عامل واحد فقط، مثل الافتقار إلى القيادة أو عدم فعالية الميثاق. كان ما حدث نتيجة لعملية طويلة وتدريجية. وقد وصف بعض المؤرخين قرار التخلي عن إثيوبيا بـ “المسمار الأخير في نعش عصبة الأمم”. مع ذلك، لا يمكن إغفال المسامير السابقة: فبحلول عام 1936، كانت العصبة قد فقدت مصداقيتها بالفعل إلى حدٍ كبير بسبب عدم قدرتها على التصرف ضد الغرو الياباني لأقليم منشوريا التابع للصين في عام 1931. فضلا عن ذلك، لم تكن العصبة قادرة على إيجاد حل عالمي للكساد الكبير. وقد لعبت التوترات الاقتصادية وتفكك النظام الدولي الناجم عن الأزمة الاقتصادية في ثلاثينيات القرن العشرين دورًا مهمًا في زوال عصبة الأمم.

أحد العناصر الأخرى لانحلال العصبة كان غموض القوى الديمقراطية في التعامل مع النظام الإيطالي في السياق الأوروبي الأوسع. ففي مارس من عام 1936، ندد أدولف هتلر بميثاق لوكارنو، [الذي سعت من خلاله القوى الأوروبية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى لتأمين وتسوية الوضع الإقليمي بعد الحرب وتثبيت وتأكيد معاهدة فرساي، كما نصّت على عدم دخول ألمانيا في حروب مرة أخرى]، وأعاد القوات الألمانية إلى منطقة راينلاند (بالألمانية: Rhineland) التابعة لألمانيا اليوم. وفي باريس ولندن، كان يُنظر إلى موسوليني بوصفه شريك مُحتمل لاحتواء ألمانيا النازية. ومن هذا المنظور، كان الحفاظ على الوضع الراهن في أوروبا يعني عدم استعداء إيطاليا وقبول ضمها لأثيوبيا.

بالمثل، لم يكن هناك في الآونة الأخيرة رد فعل يُذكر على حرب روسيا مع جورجيا في عام 2008، أو ضمّها لِشُبه جزيرة القرم في عام 2014، خشية أن يؤدي عَزل روسيا إلى تقريبها من الصين، وهو ما ثبت صحته لاحقاً.

إذن: هل يمكن ان يتكرر سيناريو زوال العصبة اليوم؟

تبدو الأمم المتحدة اليوم عاجزة عن صَون السلم والأمن، ولكن هذا لا يعني نهايتها؛ حيث تواصل وكالاتها المتخصصة التي توجد مقار العديد منها في جنيف، مثل المنظمة العالمية للملكية الفكرية، أو المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، أو الاتحاد الدولي للاتصالات، العمل بنجاح في المسائل التقنية. والأمر الأكثر إثارة للإعجاب، هو نجاح هذه المنظمة الدولية في تكريس حقوق الإنسان. أضف إلى ذلك، فإن أحدًا لا يمكنه تخيُّل منظمة دولية ثالثة كما كان الحال أثناء انهيار عصبة الأمم.

من الغزو الإيطالي لأثيوبيا إلى الغزو الروسي لأوكرانيا، من غير المُرَجَّح أن تعاني الأمم المتحدة من نفس مصير عصبة الأمم، سيما مع المستوى العالي للتعاون الدولي الذي تم إرساؤه في العديد من المجالات. مع ذلك، يثير فشل مجلس الأمن في معالجة مشكلة السلام والأمن في أوكرانيا وأماكن أخرى من العالم، تحذيرات خطيرة بشأن مُستقبل الأمم المتحدة، ولابد من إيلاء الاهتمام إلى أوجه التشابه مع زوال العصبة.

ترجمة: ياسمين كنونة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية