مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“الدستورية العليا” بين الواجب والواقع

لا يجادل كثيرون حول المكانة الرفيعة التي تتبوؤها المحكمة الدستورية العليا بمصر، سواء ما تعلق بالحياة العامة أو بالنظام السياسي.

وفيما يتساءل البعض حول قدرتها على لعب دورها كاملا في تطوير فعالية الحياة السياسية المصرية يعتبر آخرون أن المشكلة الحقيقية “ليست في المحكمة، ولكن في مكانة الدستور”.

لا ينكر باحث سياسي أو خبير قانوني المكانة البارزة التي تتبوؤها المحكمة الدستورية العليا بمصر، سواء في الحياة العامة أو في النظام السياسي. فهي محل احترام وتقدير الجميع، حكاما ومحكومين.

غير أن المراقبين للواقع المصري يستبعدون أن تلعب المحكمة دورا سياسيا مؤثرا في ظل دورانها في فلك النظام الحاكم، وفي ضوء الاختصاصات اللامحدودة التي منحها الدستور لرئيس الجمهورية، والذي له دون غيره حق تعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا.

وقد أفرد الدستور المصري المواد (174، 175، 176، 177، 178) من الفصل الخامس، للحديث عن “المحكمة الدستورية العليا”. فأوضحت المادة (174) أن المحكمة الدستورية العليا هيئة قضائية مستقلة قائمة بذاتها، في جمهورية مصر العربية، مقرها مدينة القاهرة، وبينت المادة (175) أن المحكمة الدستورية العليا تتولى دون غيرها الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح، وتتولى تفسير النصوص التشريعية، وذلك كله على الوجه المبين في القانون.

ويعين القانون الاختصاصات الأخرى للمحكمة، وينظم الإجراءات التي تتبع أمامها، وتشير المادة (176) أن القانون ينظم كيفية تشكيل المحكمة الدستورية العليا، ويبين الشروط الواجب توافرها في أعضائها وحقوقهم وحصاناتهم، فيما أوضحت المادة (177) أن أعضاء المحكمة الدستورية العليا غير قابلين للعزل، وتتولى المحكمة مساءلة أعضائها على الوجه المبين بالقانون، وبينت المادة (178) أن تنشر في الجريدة الرسمية الأحكام الصادرة من المحكمة الدستورية العليا في الدعاوى الدستورية، والقرارات الصادرة بتفسير النصوص التشريعية، وينظم القانون ما يترتب على الحكم بعدم دستورية نص تشريعي من آثار.

ويكفي لبيان مكانة رئيس المحكمة الدستورية العليا ذكر ما نصت عليه المادة (84) من الدستور من أنه “في حالة خلو منصب رئيس الجمهورية أو عجزه الدائم عن العمل، يتولى الرئاسة مؤقتا رئيس مجلس الشعب، وإذا كان المجلس منحلا حل محلّـه رئيس المحكمة الدستورية العليا، وذلك بشرط ألا يرشح أيهما للرئاسة…”

مهام وخصائص

وفي حديثها لسويس إنفو، أوضحت الدكتورة فوزية عبد الستار، أستاذ القانون الدستوري، ومقرر اللجنة التشريعية بالمجلس القومي للمرأة، الرئيس السابق للجنة التشريعية بمجلس الشعب، أن المهمة المنوطة بالمحكمة الدستورية العليا، هي: مراقبة دستورية القوانين، بحيث لا يصدر أي قانون، إلا إذا كان متوافقا مع نصوص الدستور، مشيرة إلى أنه، وإن كان الأصل حسن النية، غير أنه من الوارد أن يقصد المشرع تمرير قانون ما رغم مخالفته لنص أو روح الدستور.

ويضيف الخبير القانوني الأستاذ أحمد عبد الحفيظ، المحامي بالنقض والدستورية العليا، أن للمحكمة الدستورية اختصاصات محددة وهي:

1- الحكم على مدى دستورية القوانين والنصوص.
2- تفسير النصوص القانونية المختلف عليها، نتيجة اختلاف الرؤية بين المشرع والمحكمة.
3- الفصل في التنازع في اختصاص المحاكم أو الفصل في الأحكام المتنازع عليها.

وتبين الدكتورة فوزية أن حكم الدستورية العليا هو الحكم النهائي على دستورية أي قانون من عدمه، موضحة أن الدستور يضع قواعد أو خطوط عامة، أما القانون فيضع النصوص التفصيلية للقانون، مشيرة إلى أن أحكام الدستورية العليا ملزمة لجميع سلطات الدولة ولكافة الأفراد، وأنها نهائية وباتة لا يجوز الطعن فيها بأي من طرق الطعن القانونية.

وتشير فوزية في حديثها إلى سويس إنفو إلى أن القانون أجاز اللجوء إلى المحكمة الدستورية العليا بأحد طريقين:

1- أن تكون هناك دعوى مرفوعة أمام القضاء العادي، فيأتي الخصم فيدفع بعدم الدستورية، وهنا تنظر المحكمة في الدفع المقدم، ولو ثبت لديها جدية الدفع تأمر بوقف النظر في الدعوى وتترك له مدة 3 شهور للطعن هذا للأفراد من خلال دعوة مرفوعة.

2- أي محكمة مرفوع أمامها قضية وترى ضرورة لرفعها للمحكمة الدستورية العليا يجوز لها ذلك.

وتذكر الدكتورة فوزية عبد الستار من أسباب عدم دستورية القوانين، أن يكون قد أفلت من المشرع عند وضع القوانين، نص متعارض مع الدستور دون أن ينتبه إلى ذلك، كما قد يضع المشرع نصا بقانون وفق رؤيته هو، وعند عرض القانون على المحكمة الدستورية يكون لها تفسير آخر للنص القانوني يختلف عن رؤية المشرع.

أحكام تاريخية

وقد ذكرت الدكتورة فوزية عبد الستار بعضا من الأحكام التاريخية للمحكمة الدستورية العليا، ومنهاالحكم الذي صدر في 2 يونيو 1984، بصدد المادة (47) من قانون “الإجراءات الجنائية” التي كانت تجيز لمأمور الضبط القضائي، إذا ضبط جريمة في حالة تلبس أن يفتش منزل المتهم دون الحصول على إذن من النيابة، حيث قضت المحكمة بعدم دستورية هذا النص، لتعارضه مع المادة (44) من الدستور التي تقضي بعدم جواز تفتيش أو دخول المنازل إلا بإذن قضائي. ومن يومها، تعطل هذا النص ولم يعد مطبقا.

ومن الأحكام التاريخية الأخرى الحكم الذي صدر عندما قرر المشرع في قانون “مجلس الشعب” أن تجرى الانتخابات بنظام القائمة الحزبية، وتم تشكيل المجلس على هذا الأساس، غير أن المحامي كمال خالد، رحمه الله، طعن بعدم دستورية القانون، وأحيل الطعن للدستورية العليا التي قضت بعدم دستورية النص، معتبرة أنه يعارض مبدأ المساواة المنصوص عليه في المادة (40) من الدستور، لأنه يجيز الترشيح لعضوية المجلس لمن كان عضوا بأحد الأحزاب، فيما يحرم المستقلين من هذا الحق.

وهنا، كان لابد على المشرع أن يتدخل لتعديل هذا العوار الدستوري، خاصة بعدما أبطلته الدستورية العليا، فأضاف إلى القائمة الحزبية مقعدا فرديا للمستقلين، غير أن هذا التعديل أيضا طعن بعدم دستوريته، وأحيل الموضوع للمحكمة التي قضت بعدم دستوريته أيضا، لمخالفته لمبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين ولكونه يقسم المواطنين إلى مستقلين وحزبيين”.

من جهته تطرق أحمد عبد الحفيظ إلى عدد آخر من الأحكام التاريخية للمحكمة الدستورية مثل الحكم الذي صدر بمناسبة الاستفتاء الذي أجراه السادات على معاهدة “كامب ديفيد”، واعتبر أن “الاستفتاء الذي يجريه رئيس الجمهورية على أمور سياسية لا يرقى إلى مرتبة النصوص الدستورية، وأن الإجابة عليه بـ (نعم) لا يترتب عليها أي تعديل في الدستور”. وقد حمى هذا الحكم الدستور من العبث به، وأضافت المحكمة في قرارها آنذاك أن “توقيع الدولة للمعاهدات الدولية، لا يمنع حق المواطنين في معارضتها”، موضحة أن “حجب حق المواطن في قول (لا) ينقض فكرة الاستفتاء من أساسها”.

وهناك أيضا الحكم الذي صدر عام 1983، والخاص بالحرية النقابية، وأبطلت به المحكمة قرار الرئيس السادات بحل مجلس نقابة المحامين الذي تشكل عام 1980، والذي قالت فيه المحكمة: “إن الجمعيات العمومية للنقابات هي صاحبة السلطة المطلقة في كل أمور النقابة طبقا لمبدأ الحرية الذي كفله الدستور، وبالتالي، لا يجوز أي تدخل إداري في هذا الشأن، وإذا حدث تغيير، فإنه يعتبر مخالفا للدستور”.

وكذا الحكم الذي اعتبر أن المقصود بكلمة “الإشراف” المنوط بأعضاء الهيئات القضائية في الانتخابات العامة هو الإشراف على كل اللجان الفرعية والرئيسية، وألا يقتصر الأمر على اللجان الرئيسة كما كان يجري عليه العمل سابقا، والطريف أن هذا الحكم صدر بعدما ظل معروضا على المحكمة لمدة 10 سنوات، أي لدورتين برلمانيتين، حيث عرض النص على المحكمة عقب انتخابات عام 1990، وصدر الحكم قبيل انتخابات عام 2000.

ويذكر السيد أحمد عبد الحفيظ من طرائف التعديلات الدستورية أيضا، التعديل الذي أجراه المشرع، في عهد السادات، على المادة التي تقضي بأن (يتولى رئيس الجمهورية السلطة في البلاد لمدة 6 سنوات، قابلة للتجديد لمدة أخرى)، ليصبح (.. لمدد أخرى)، حيث حذف (التاء المربوطة) في كلمة (مدة) واستبدلها بحرف (الدال) لتصبح (مدد)، وهو ما استفاد منه الرئيس الحالي، محمد حسني مبارك، الذي تولى الحكم عام 1981 عقب اغتيال سلفه السادات، حيث تم التجديد له 4 مرات تنتهي في موفى أكتوبر 2004، مع توقعات شبه أكيدة بالتجديد له لفترة خامسة، رغم بلوغه 76 عاما!

واختتم أحمد عبد الحفيظ حديثه لسويس إنفو قائلا :”لا أتوقع أن يكون للمحكمة الدستورية العليا أي دور مؤثر في المستقبل القريب، لا في موضوع الترخيص للأحزاب السياسية، ولا في موضوع توريث السلطة. فالواقع العملي، يوضح لنا أنها، بحالتها الحالية وفي ظل النظام القائم، لن يكون لها أي دور في كبح نزوع الحكومة للتسلط أو مخالفة القوانين”.

سلطات غير محدودة للرئيس

وفي كتابه الذي ألفه عام 1997، تحت عنوان (نقد دستور 1971 ودعوة لدستور جديد)، قال أحمد عبد الحفيظ: “يمكن ملاحظة تسرب طبائع الاستبداد في النصوص نفسها من خلال تركيزها على الدور المركزي لرئيس الجمهورية في نظام الحكم وتفرده بالسلطة. فالدستور يعطيه كامل السلطات، كما يمنحه حق المشاركة في التشريع بشكل واسع. وعلى الرغم من أن الدستور قد حشد بالنصوص التي تكفل عددا ضخما من الحريات والحقوق الأساسية، إلا أنها لم يتحقق منها شيئ في الواقع”.

ويوضح السفير أمين يسري، المحلل السياسي، في حديث مع سويس إنفو أن “الدستور القائم أعطى لرئيس الجمهورية سلطات واسعة، بوصفه رئيسا للدولة من ناحية، وبوصفه يتولى السلطة التنفيذية من ناحية أخري علي الوجه المبين بالدستور، وهو في نفس الوقت رئيس مجلس الدفاع الوطني، والقائد الأعلى للقوات المسلحة، كما أنه الرئيس الأعلى لهيئة الشرطة”.

ويضيف السفير يسري أن هذه السلطات الواسعة “هي من أكبر عيوب الدستور القائم، خاصة وأنها من اتساعها تجعله أيضا غير مسؤول أمام أي جهة من الجهات. وقد انبثق هذا عن فكر الرئيس الراحل السادات الذي وضع هذا الدستور عام 1971، وقام بتفصيله على مقاسه من منطلق أنه سيبقي رئيسا لمصر إلى الأبد”!

ويعتبر يسري أن “من مثالب هذا الدستور “الساداتي” وأخطرها نص المادة (173) على أن رئيس الجمهورية هو رئيس المجلس الأعلي للهيئات القضائية، رغم تعارض هذا مع النظم الديمقراطية التي جوهرها الفصل بين السلطات الثلاث، وهو ما يميز بينه وبين الحكم الدكتاتوري والشمولي”.

وفي تصريح خاص لسويس إنفو، أوضح الخبير والمحلل السياسي، الدكتور سيف الدين عبد الفتاح، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة أن قيام المحكمة الدستورية العليا بدور فاعل في الحياة السياسية في مصر مرهون بأمرين اثنين هما “الطبيعة المؤسسية للمحكمة، وطبيعة شخصية القاضي الذي يرأس المحكمة الدستورية العليا”.

وعاب الدكتور سيف الدين على الدستور أيضا “الدور الذي يتحدث عن صناعة المستبد، وخاصة فيما يتعلق بإطلاق سلطات رئيس الجمهورية. فالذين يتحدثون عن ضرورة وأهمية الإصلاح الدستوري محقون، وحديث الحزب الوطني الحاكم في مؤتمره الأخير عن أن الإصلاح الدستوري ليس مهما، كلام غير صحيح”، مشيرا إلى أن “المشكلة الحقيقية ليست في المحكمة، ولكن في مكانة الدستور. فالدستور للأسف أصبح حبرا على ورق”.

وأضاف الدكتور سيف الدين أنه “مع قناعتنا بأن الدستورية العليا هي أعلى الهيئات القضائية في مصر، وأن لها حجية في النظام القانوني، وأنها تلعب دورا رقابيا على الإصدارات التشريعية، فإننا نتمنى أن تتمتع المحكمة الدستورية العليا باستقلال حقيقي يعمق من قيامها بدور فاعل في الحياة السياسية المصرية”.

من جهة أخرى، أشار الدكتور سيف الدين إلى أنه “لا يخفي على باحث واع عالم بواقع الحياة السياسية في مصر أن هناك أمران لهما أكبر الأثر في عملية التشريعات القانونية التي تخدم النظام السياسي، وهما “ترزية القوانين” الذين تستعملهم السلطة في تفصيل بعض القوانين على المقاس، وأيضا هناك مشكلة “سلق القوانين” أي تمرير بعض القوانين المصيرية مستغلة وجود أغلبية لنواب الحزب الحاكم في البرلمان”.

ويختتم سيف الدين حديثه مطالبا بأن “يتم انتخاب رئيس المحكمة الدستورية العليا، بحيث لا يقوم رئيس الجمهورية بتعيينه، وذلك للحافظ على استقلالية المحكمة، وتأكيدا على استقلال السلطات كأساس للفصل بين السلطات الثلاث. فمن المعروف أن السلطة تحد من السلطة”.

همام سرحان – القاهرة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية