مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

العراق: من “المنارة” إلى “المغارة”!

نفى وزير الدفاع العراقي السابق حازم الشعلان (في الصورة مع الجنرال لأمريكي ميكائيل جونس ببغداد يوم 1 يوليو 2004 ) الإتهامات الموجهة إليه Keystone

"الولايات المتحدة أساءت إلى حد كبير إدارة إحتياطي النفط العراقي وأمواله، ووزعته كغنائم على حفنة من المقاولين والشركات الاميركية الخاصة..

.. كما انها أخطأت أيضاً إلى حد كبير حين أقدمت على خصخصة كل موارد الدولة العراقية. ولذا، ما لم تتخذ إجراءات إصلاحية سريعة، ستتحّول إعادة بناء العراق إلى أضخم فضيحة فساد في التاريخ”.

هكذا تحدث التقرير العالمي السنوي حول الفساد، الذي تصدره “مؤسسة مراقبة الفساد والشفافية الدولية” الموثوقة، التي لم تنس أن تحّذر أيضاً من أن الفساد المستشري في كل العراق بين المسؤولين الأمريكيين والعراقيين على حد سواء، بات يهدد بنسف كل فرص قيامة الإقتصاد العراقي مجدداً لسنوات عدة مقبلة.

ما هذا الذي يجري؟ وكيف تحوّل المشروع الأميركي العلني لـ “تحويل العراق إلى منارة للديموقراطية في الشرق الأوسط” إلى “مغارة علي بابا” تحتشد فيها كل مسروقات وغنائم حروب الشرق الأوسط؟

أرقام ومعطيات

سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. لكن قبل ذلك وقفة أولاً امام بعض الأرقام والمعطيات المذهلة حول “أضخم فضيحة فساد في التاريخ”:

– تقرير للمحقق الخاص الأميركي ستيوارت بوين، يكشف عن أن 8،8 مليار دولار(الرقم ليس خطأ) تم توزيعها من جانب إدارة الأحتلال الأميركي على الوزارات العراقية بدون رقيب أو حسيب أو مدقق حسابات.

– فرانك ويليس، المستشار السابق لسلطة التحالف في العراق، يبلغ “نيوزويك” أن الإدارة الأمريكية شنت حملات عنيفة على بعض مسؤولي الامم المتحدة بتهمة سرقة ملايين الدولارات من برنامج النفط مقابل الغذاء. إلا أن سلطات الأحتلال الاميركي التي ورثت هذا البرنامج في إطار “صندوق تنمية العراق”، أهدرت مليارات الدولارات العراقية بطرق لا شرعية و لا قانونية.

– منظمة “الأقتصاد العراقي المستقلة” تكشف النقاب عن ان الفساد مستشر بشكل خطر للغاية في شركة “ساوثيرن أويل” التي تشرف على معظم إنتاج النفط العراقي في الجنوب، مما يؤدي إلى تبخّر مئات ملايين الدولارات. وهذا جنباً إلى جنب مع وقوع حكومة البصرة المحلية بين براثن المافيات والميليشيات التي تسرق علناً كل واردات الدولة.

هذه المعطيات جاءت قبل كشف النقاب مؤخراً عن “تبخّر” مليار دولار من وزارة الدفاع العراقية، بحجة شراء معدات للجيش العراقي. ويقول هنا النائب السعدي، عضو اللجنة العليا لمكافحة الفساد في البرلمان، : ” إن الفساد مستشر إلى حد كبير في وزارة الدفاع”.

ويشير مسؤولون آخرون إلى انه في حالة واحدة فقط، فقد مبلغ 226 مليون دولار مقابل مشتريات عسكرية للجيش العراقي من شركة “بومار” البولندية، تتضمن طائرات هليوكوبتر ومسدسات وسيارات إسعاف وخزانات مياه. ويضيفون أنه حين سافر خبراء عراقيون إلى أوروبا للتدقيق في هذه المشتريات، خاصة الطائرات، اكتشفوا أن هذه الأخيرة التي تكلف الواحدة منها عشرات ملايين الدولارات، كانت قديمة وعفا عليها الزمن. ولذا رفضوا إستلامها وعادوا بخفي حنين من بولندا.

معظم عمليات الشراء غير الضرورية تمت في عهد حكومة إياد علاوي السابقة التي تسلمت مقاليد السيادة(الشكلية) من سلطات الأحتلال الأميركي في حزيران 2004. والشخص الأبرز الذي تحوم حوله الشبهات هو وزير الدفاع السابق حازم الشعلان الذي يعيش الان بين الأردن وبريطانيا.

ويشير راضي الراضي، رئيس لجنة الشفافية في البرلمان، “ما فعله شعلان ووزارته، قد يكون أضخم سرقة في العالم. وتقديراتنا تتروح بين 1،3 و2،3 مليار دولار”. شعلان رفض هذه التهم، وقال ان كل الصفقات التي أبرمتها وزارته “نالت سلفاً موافقة السلطات الأمريكية”. بيد ان مثل هذا النفي فاقم الامور أكثر، لأنه عنى ان مسؤولين في سلطة الاحتلال شاركوا هم أيضاً في هذه السرقات.

وإلى فضائح وزارة الدفاع، تم تسجيل الوقائع الأتية:

– وزارة الكهرباء وقعت عقداً لشراء محطة كهرباء جديدة بقيمة 283 مليون دولار. لكن ما دفعته الدولة العراقية تجاوز الـ 236 مليون دولار. أين ذهب هذا الفارق الكبير؟

– تم تسجيل فقدان مليار دولار العام الماضي وحده في إطار برنامج توزيع الغذاء.

– في 12 إبريل 2004، سلّمت سلطات الأحتلال بعض المسؤولين في مدينة إربيل بشمال العراق مبلغ 1،5 مليار دولار نقداً في شكل عملة ورقية من فئة المائة دولار تطلب الامر إستخدام ثلاث طائرات هليوكوبتر لنقلها. لكن السلطات لم تدقق بعد ذلك في كيفية توزيع الاموال، الأمر الذي دفع المحاسب العام فيها إلى الأعتراف بأنها “إما ضاعت أو سرقت ” (… ).

– الحاكم الأميركي السابق بول بريمر كان يحتفظ في مقره بمبلغ 600 مليون دولار نقداً بدون ان يسجل هذا المبلغ في أي دفاتر رسمية. 200 مليون دولار من هذا المبلغ كان يوضع في غرفة أحد القصور السابقة لصدام حسين.

سؤال واحتمالات ثلاث

نعود الأن إلى سؤالنا الأولي: لماذا هذا “الأنفجار العظيم” للفساد والسرقات في عراق ما بعد الأحتلال الأميركي، والذي قد لا يكون له سابق في تاريخ الأحتلالات؟

بالطبع، سلطات الأستعمار الأوروبي في القرنين التاسع عشر والعشرين، كانت تنهب هي الأخرى ثروات الدول المهزومة. لكنها كانت تفعل ذلك بدون أن تسمح لموظفيها الرسميين من مدنيين وعسكريين بالمشاركة بشكل شخصي في عمليات النهب. ففرنسيو نابليون بونابرت، مثلاً، سرقوا الآثار الفرعونية المصرية لكنهم وضعوها في متاحف فرنسية عامة. وبريطانيو إليزابيث الاولى دمّروا الإقتصاد الزراعي والحرفي الهندي (كما فعل بول بريمر حين خصخص كل شيء في العراق)، لكنهم لم يفعلوا ذلك لصالح حفنة من الرأسماليين الفاسدين المرتبطين بالملكة بل لصالح الأقتصاد الأنكليزي عموماً. وحتى الأستعماريين البرتغاليين الذي إشتهروا بقسوتهم ونهمهم، حرصوا على أن تجري عمليات السرق والنهب في إفريقيا في إطار كتبهم المحاسبية الخاصة.

لماذا يبدو الإحتلال الأميركي للعراق إستثناء على هذا النحو؟.. هل هي الرأسمالية المتوحشة وقد أفلتت من عقالها خارج أميركا؟ أم أن فضيحة العراق هي مجرد جزء من مسلسل فضائح الفساد التي تضرب إنرون وباقي الشركات الاميركية العملاقة الواحدة تلو الاخرى؟

الإحتمالان واردان. لكن ثمة شيء ثالث وارد أيضاً: الأمبراطورية الأمريكية في الحلة الجديدة التي إرتدت غداة إنتهاء الحرب الباردة، باتت تشبه إلى حد بعيد الأمبراطورية الرومانية في النصف الثاني من عمرها، حين أصبح التمدد الأمبريالي في خدمة حفنة من السياسيين والجنرالات وأصحاب الأعمال، وحين حل شعار “الغنى عبر الفساد اليوم” مكان شعار “المجد عبر العظمة غداً”.

وهذا الاحتمال الثالث سيبقى المرجح، طالما أننا نواصل الاطلاع كل يوم على المزيد من المعطيات والأرقام حول فضيحة الفساد الأضخم في التاريخ؛ وطالما ان الادارة الأميركية تواصل وضع غبار الفساد تحت سجادة الحرب وضروراتها، مبررة بذلك الفساد الأمبراطوري بضرورات المجد الأمبراطوري.

وهذا التطور ، بالمناسبة، كان السوس المشترك الذي نخر عظام كل الامبراطوريات السابقة في التاريخ.

سعد محيو- بيروت

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية