اعتماد معاهدة دولية للجوائح… بارقة أمل لتعددية الأطراف

اعتمدت جمعية الصحة العالمية معاهدة دولية جديدة بشأن الاستعداد للجوائح. وقد جاءت هذه المعاهدة في توقيت لافت، إذ تزامنت مع انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية.
انطلقت الدورة الثامنة والسبعون لجمعية الصحة العالمية في 19 مايو، في جنيف، بسويسرا، تحت شعار “عالم واحد من أجل الصحة”. وفي اليوم الثاني من الاجتماعات، أقرّت الجمعية المعاهدة الجديدة الخاصة بالوقاية من الجوائح ومواجهتها، دون تسجيل اعتراضات.
ووفقًا لتعبير تيدروس أدهانوم غيبريسوس، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، فإن هذه المعاهدة تمثّل “لحظة تاريخية”. وقد قال، عقب انتهاء مفاوضات الدول الأعضاء في أبريل الماضي، إنها “ستجعل العالم أكثر أمانًا”.
وتُعدّ جمعية الصحة العالمية الهيئة العليا لاتخاذ القرار داخل منظمة الصحة العالمية.
وأمّا المفاوضات بشأن المعاهدة، فقد استغرقت ثلاث سنوات، وهو وقت يُعدّ قصيرًا نسبيًا للتوصّل لاتفاق دولي بهذا الحجم، خاصة في ظل تردّد بعض الدول الصناعية في الالتزام بنقل التكنولوجيا إلى الدول النامية في حال حدوث جائحة في المستقبل.
وجاء هذا التقدّم في وقت شكّك فيه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في النظام متعدد الأطراف. وكان من بين أوّل الأوامر التنفيذية التي وقّعها أمرًا بالانسحاب من منظمة الصحة العالمية، التي تُعدّ الولايات المتحدة أكبر مانح لها، إذ قدّمت تبرعات بلغت 1،284 مليار دولار أميركي خلال الفترة 2022–2023.
وكانت جائحة كوفيد-19، التي أودت بحياة نحو 15 مليون شخص حول العالم، الدافع الرئيسي وراء إعداد المعاهدة. كما كشفت الجائحة عن تفاوتات حادّة في الوصول إلى اللقاحات، إذ استأثرت الدول الغنية بالحصة الأكبر من الجرعات، بينما اضطرت العديد من بلدان الجنوب العالمي إلى الانتظار شهورًا قبل الحصول عليها.

ويأمل خبراء وخبيرات في مجال الصحة في أن تسهم المعاهدة في تنظيم الاستجابة لتحديات الجوائح المستقبلية، وتحقيق قدر أكبر من التنسيق على المستوى متعدد الأطراف. وقد لاقت المعاهدة ترحيبًا من جهات فاعلة في مجال الصحة العالمية، ومن منظمات غير حكومية.
وقالت ميليسا شاروي، مسؤولة المناصرة الإنسانية للصحة العالمية والحصول على الأدوية في منظمة أطباء بلا حدود متحدثة إلى سويس إنفو (SWI Swissinfo.ch): “الاتفاق علامة قوية على التضامن”.
ثلاثة في واحد
وأوضح ريكاردو ماتوتي، مستشار السياسات في مركز الصحة العالمية التابع لمعهد الدراسات العليا في جنيف، أن المعاهدة تدمج في طيّاتها ثلاث اتفاقيات ضمن إطار واحد، فهي تتضمن أحكامًا للوقاية من الجوائح، وللتأهب لها، والاستجابة في حال وقوعها.
وأشار إلى أن التوصّل إلى هذا الاتفاق، خلال ما يزيد قليلًا على ثلاث سنوات، يُعدّ إنجازًا لافتًا، لا سيَّما في ظل السياق الجيوسياسي الراهن. وأضاف: “إنها اتفاقية تاريخية لتعددية الأطراف، ودليل على ضرورة معالجة التحديات بشكل جماعي”.

المزيد
منذ عودة ترامب… القطاع الإنساني يواجه أزمة وجودية
هل يمكن للمعاهدة أن تصمد دون الولايات المتحدة؟
وفقًا لعدد من المطلعين والمطلعات الذين تحدثت إليهم سويس إنفو، فإن انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية شكّل دافعًا إضافيًا للدول الأعضاء للإسراع في التوصّل إلى اتفاق قبل انعقاد جمعية الصحة العالمية.
وقال ماتوتي: “لم يعد الأمر يتعلق فقط بمنظمة الصحة العالمية، بل أيضًا بإعادة التأكيد على تعددية الأطراف”. وأضاف أن “نظام اللوائح في معاهدة الجائحة لن يفشل، حتى لو غابت الولايات المتحدة… إذ يشارك في المعاهدة أكثر من 190 بلدًا”.
علمًا بأن انسحاب الولايات المتحدة من المنظمة لن يدخل حيّز التنفيذ قبل يناير 2026، ما يعني أنها تظل عضوًا فاعلًا حتى ذلك الحين. وقد شاركت الولايات المتحدة بفعالية في المفاوضات خلال السنوات الثلاث الأولى، بحسب ماتوتي، وقد تُقرر لاحقًا الانضمام إلى المعاهدة.
ومع ذلك، يطرح غياب الولايات المتحدة تحديات حقيقية. ويُحذّر مختصون ومختصات من أن انسحابها قد تكون له تبعات مالية على منظمة الصحة العالمية، وقد يؤثر على الصحة العامة، وتنفيذ المعاهدة على حدّ سواء.
ويبقى من غير الواضح، على سبيل المثال، ما إذا كانت الولايات المتحدة ستقوم بجمع مسببات الأمراض، ومشاركتها مع منظمة الصحة العالمية، إذ لا يوجد ما يُلزمها بذلك، وفقًا لما صرّحت به ميليسا شاروي، من منظمة أطباء بلا حدود.
ومن جانبها، قالت سانجيتا شاشيكانت، الخبيرة القانونية في شبكة العالم الثالث، لـسويس إنفو: “إذا قررت الولايات المتحدة عدم القيام بذلك، فقد تكون هناك ثغرات في مكافحة الأوبئة في المستقبل”. وكانت شاشيكانت قد شاركت في المفاوضات التي جرت في جنيف بصفة مراقبة.
خطوة إلى الأمام
يرى ريكاردو ماتوتي أن أبرز تقدّم تحرزه المعاهدة هو إدراج أحكام تتعلق بسلاسل التوريد والخدمات اللوجستية لتوزيع المنتجات الطبية.
كما يتيح نص المعاهدة للحكومات فرض شروط عند استخدام أموال عامة في تمويل أنشطة شركات خاصة معنية بتطوير الأدوية، وهو ما يُشكّل تحولًا في الوضع القائم، إذ لم تكن لدى السلطات العامة أدوات قانونية واضحة تُمكّنها من الوصول إلى تلك المنتجات أو ضمان توزيعها بشكل عادل.

وتهدف هذه الإجراءات إلى تمكين توزيع اللقاحات والمستلزمات الطبية وفقًا للاحتياجات الصحية، وإلى الحد من ممارسات التخزين المفرط. كما تسعى المعاهدة إلى تعزيز تقاسم المعارف والبُنى الإنتاجية بين الدول المتقدمة والدول النامية، بما يسمح للأخيرة بإنتاج لقاحات، وعلاجات، وتشخيصات متعلقة بالجوائح على المستوى المحلي. وقد شكّل نقل التكنولوجيا بين الشمال والجنوب العالمي إحدى النقاط المحورية في مسار التفاوض.
ويُلزم نص المعاهدة الأطراف بتعزيز نقل التكنولوجيا، على أن تُحدَّد آليات التنفيذ بالتوافق بين الدول المعنية، وتُنفّذ على أساس طوعي.
المفاوضات لم تُستكمل بعد
رغم اعتماد المعاهدة، إلا أنها تحتاج إلى عدة سنوات قبل أن تدخل حيّز التنفيذ. فهي تتضمن ملحقًا إضافيًا لم يُتفق عليه بعد، ومن المقرر اعتماده في جمعية الصحة العالمية عام 2026. وعندها فقط، يُفتح الباب أمام توقيع المعاهدة وملحقها والتصديق عليهما.
ولن تُصبح المعاهدة ولا الملحق ملزمين إلا بعد أن تصادق عليهما 60 دولة على الأقل. ويتناول الملحق قضايا تتعلّق بمسببات الأمراض الوبائية المحتملة، وتسلسلها الجيني، وآليات تقاسم المنافع المالية الناتجة عن المنتجات الطبية التي تطوّرها الشركات باستخدام تلك المسببات.
وفي الوقت الحالي، ترسل البلدان مسببات الأمراض إلى مختبرات تنسق منظمة الصحة العالمية عملها. ومن ثم تستخدم شركات الأدوية هذه العوامل الممرضة لتصنيع المنتجات الطبية، مما يخلق نظامًا غير منصف في الحصول على العلاجات.
وتُلزم الآلية الحالية الشركات التي تستفيد من هذه الموارد بتخصيص 10% من منتجاتها لمنظمة الصحة مجانًا، و10% إضافية بأسعار ميسّرة في حال حدوث جائحة. لكن سانغيتا شاشيكانت، الخبيرة القانونية في شبكة العالم الثالث، ترى أن هذه الالتزامات ليست كافية.
وتؤكد شاشيكانت أن الوصول العادل إلى المنتجات الطبية لاحتواء التفشي والوقاية من الجوائح يجب أن يُدرج صراحة في نص المعاهدة. وتضيف أنه في حالة حدوث جائحة، يجب توسيع نطاق الإنتاج بسرعة. ولذلك، ترى “أن هناك حاجة إلى منح مزيد من التراخيص حتى تتمكن الشركات في البلدان النامية من المشاركة في الإنتاج”.
وتبقى أسئلة أخرى مطروحة، من بينها غياب آلية رقابية واضحة، وغياب ضمانات تمويل مستدام لتنفيذ المعاهدة.
وإلى حين دخول المعاهدة حيّز النفاذ، تدعو منظمة أطباء بلا حدود الحكومات إلى بدء تنفيذ التدابير على المستوى الوطني. ووفقًا لمجموعة المراقبين والمراقبات التي حضرت المفاوضات، فمن المنتظر أن يؤدي المجتمع المدني دورًا أساسيًا في مساءلة الحكومات، لا سيما في ظل غياب آلية رقابة منصوص عليها في المعاهدة.
تحرير: فيرجيني مانجين
ترجمة: عبد الحفيظ العبدلي
مراجعة: ريم حسونة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.