
فنانة من غزة تنسج مستقبلا في باريس بعيدا عن الحرب

فيما يتردد صدى أخبار غزة في مشغلها الباريسي، تقول الفنانة الفلسطينية مها الداية وهي تحمل إبرة وخيطا “قبل الحرب، كنتُ أُطرّز للمناسبات السعيدة. أما اليوم، فأُطرّز الألم”.
هذه الفنانة الفلسطينية البالغة 41 عاما هي واحدة من مئات سكان غزة الذين لجأوا إلى فرنسا. وتحاول بعيدا عن الصراع، إعادة بناء حياتها مع زوجها وأولادهما الثلاثة.
داخل مشغلها، تنسج مها الحرب غرزة غرزة، كفعل مقاومة، لتوثيق الحياة تحت القصف. على لوحات قماشية بألوان غامقة، تنسج بخيوط صوفية سوداء رسائل بالعربية مثل “أوقفوا الإبادة الجماعية”، أو تنجز خريطة لقطاع غزة بها مناطق بالأحمر ترمز إلى الدمار.
في نيسان/أبريل، عرضت أعمالها في معهد العالم العربي في باريس، حيث أهدت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قطعة مطرزة تقليدية عليها عبارة “وين بدنا نروح؟” (إلى أين سنذهب؟)، وهي عبارة شائعة في غزة “يردّدها الجميع لأننا نهجر باستمرار”، على قول الفنانة.
تشنّ إسرائيل منذ أكثر من 21 شهرا حربا مدمرة على قطاع غزة، ردا على الهجوم الذي نفذته حركة حماس في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 وأسفر عن مقتل 1219 إسرائيليا، معظمهم من المدنيين، وفقا لحصيلة أعدتها فرانس برس استنادا إلى بيانات رسمية.
وقُتل أكثر من 58 ألف فلسطينيا، معظمهم من المدنيين، في الحملة العنيفة التي تشنها إسرائيل في غزة، وفقا لبيانات وزارة الصحة التابعة لحكومة حماس والتي تعتبرها الأمم المتحدة موثوقة.
– “بضع أيام فقط” –
عاشت مها وعائلتها ستة أشهر من هذه الحرب.
بعد أيام قليلة على هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر، غادرت مها في غزة تاركة شرفتها “المزيّنة بالأزهار”، ولجأت إلى خان يونس في الجنوب، على أمل النجاة من القصف. وتقول “قلت في قرارة نفسي إن المغادرة ستكون لبضع أيام فقط، سنعود قريبا. لم نكن نتوقع أن تطول هذه المدة”.
في منتصف كانون الأول/ديسمبر، طال قصف المنزل الذي لجأت إليه، ما أدى إلى إصابة اثنين من أبناء أخيها بجروح خطرة، أحدهما بُتر أحد أطرافه، على قولها. عاشت وعائلتها الأشهر الأربعة التالية في خيمة. وتقول “كان البرد لا يُحتَمَل (…) والمطر يهطل بغزارة”.
سمعوا عن وكالة تُوفر إمكان مغادرة قطاع غزة عبر الحدود المصرية في مقابل أربعة آلاف دولار للشخص الواحد. وقد غطّى فنان من بيت لحم تكاليف السفر في مقابل لوحات تنجزها مها وزوجها.
استأنفت الفنانة عملها الحرفي في القاهرة، فيما عاود زوجها، وهو فنان أيضا، الرسم. تقول “تشعر هناك وكأنك طائرٌ يخرج من قفصه، كان الأمر أشبه بحلم”.
خلال تلك الفترة، تابعت مبادرة “معاً” التي تأسست مع بداية الحرب لدعم فناني غزة، مسيرتها الفنية، ورفعت ملفها إلى المعهد الفرنسي للعلوم السياسية ومعهد كولومبيا، الفرع الباريسي للجامعة الأميركية العريقة، للحصول على إقامة فنية ضمن برنامج “بوز” PAUSE”.
يهدف هذا البرنامج الذي أسسه وزير التعليم العالي والبحث الفرنسي عام 2018 إلى مساعدة الباحثين والفنانين في حالات الطوارئ.
– “ألم داخلي” –
بعد تسعة أشهر أمضتها العائلة في مصر، وصلت إلى باريس مطلع عام 2025، حيث التحقت مها بمعهد كولومبيا واستأنفت حياتها الفنية تدريجا. كانت تدرس الفرنسية صباحا، وتطرز بعد الظهر.
مع حلول المساء، تجلس مع زوجها وأولادهما الثلاثة حول طاولة في مسكن طالبي يقيمون فيه موقتا. أما الأولاد وهم يافا (8 أعوام)، وريما (15 عاما)، وآدم (18 عاما) فاستأنفوا الدراسة بعد أشهر طويلة من الانقطاع عنها.
وتقول مها “عندما وصلتُ إلى هنا، كنتُ سعيدة. أحب باريس بكل تفاصيلها. لكن في الوقت نفسه، أشعر بنوع من الألم الداخلي. ما دامت الحرب دائرة، والناس يموتون، وعائلتي لا تزال هناك، يصعب عليّ أن أعيش بسلام تام”.
تأمل الفنانة أن تعود إلى وطنها يوما ما، وتقول “هذه رغبة الجميع (…) لكننا نبحث دائما عن حياة أفضل لأنفسنا ولأولادنا”، مؤكدة أنّ “الأمان يبقى الأهم”.
بالإضافة إلى هذه المساعي الفردية، أُجلي منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2023، 526 شخصا من فرنسيين وفلسطينيين، بشكل مباشر من قطاع غزة بفضل عمليات نظمتها وزارة الخارجية.
ركا/رك/غ ر