مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

مواجهة الإرهاب الديني تبدأ بالـفـكـر

تضع الأفكار والممارسات الإرهابية باسم الإسلام عبئا كبيرا على كاهل المؤسسات الدينية في العالم العربي والإسلامي Keystone

يثور جدل واسع في بريطانيا والبلدان الغربية عموما حول كيفية مواجهة الإرهاب الأعمى الذي ضرب مجددا في لندن، أمنيا وسياسيا وميدانيا.

في المقابل، تتجه الأنظار إلى الهيئات والمؤسسات الدينية في العالم الإسلامي للمساهمة عمليا في التخلص من داء جماعات الفكر المتطرف والمستند إلى أفكار لا علاقة لها بالإسلام وتعاليمه.

قد يمر بعض الوقت حتى يمكن تحديد الجهة الفاعلة لهجمات لندن بدقة، لاسيما فى ضوء الشكوك التي تحيط بالبيان الذي أعلنته جماعة وصفت نفسها بأنها “سرية وتابعة لجهاد القاعدة في أوروبا” أو بتبني ما يسمى بـ “جماعة أبي حفص المصري” للمسؤولية عن العمل الإرهابي في قلب العاصمة البريطانية.

ومع ذلك، فليس هناك أي عُـذر في عدم توجيه أقصى إدانة مُـمكنة لمثل هذه الأعمال الإرهابية الدنيئة الموجهة إلى أبرياء لا ذنب لهم، ولا هدف واضح من ورائها سوى القتل بدم بارد، ولا يمكن تبريرها بأي حال وتحت أي مسمى.

مثل هذه الأعمال الإرهابية الموجهة إلى أبرياء في دول أوروبية، حتى ولو قام بها من يحملون جنسية هذا البلد، لا تقدم أي إضافة إلى أصحابها. فتحطيم وتدمير بعض قطارات أو حافلات للنقل العام، وقتل أو جرح من فيها من الركاب، وإصابة أهل البلاد بالذعر والهلع، لا يدخل أبدا في باب الجهاد المشروع للدفاع عن العقيدة والأرض والعرض، وإنما يدخل فى باب قتل الأبرياء ونشر الفساد في الأرض، وكلاهما محكوم على فاعله – في الشريعة الإسلامية – بالموت قصاصا.

السؤال المكرر

مثل هذه الأعمال، ومع افتراض أن وراءها تنظيما ذو صلة ما بالقاعدة، وكما ثبت يقينا في حالات سابقة، أنها لا تؤدي إلى تحقيق أي هدف قد يبدو معقولا، فلا هي أصابت اقتصاد البلد المعني في مقتل، ولا دفعت أهله إلى الانقلاب على حكومته، ولا أعطت مسلمي هذا البلد أي ميزة إضافية، بل على العكس من كل ذلك، كانت وبالا عليهم وعلى الدين الإسلامي نفسه.

والصحيح أن رد فعل أهل لندن إزاء سكانها المسلمين يبدو عقلانيا إلى حد ما، لكن أعمال التحرش والإهانة بمسلمين ومسلمات ودور عبادة إسلامية حدثت بالفعل في أماكن مختلفة من إنجلترا، في تحرك ِلا يخلو من دلالة بأن أي عمل إرهابي قد يكون وراءه متطرفون إسلاميون يجب أن يدفع ثمنه كل المسلمين.

وبالرغم من الرفض الكامل لمثل هذا المنطق غير السليم، فإن الأمر يجب أن يعيد على المسلمين، ليس في بلاد المهجر وحسب، بل في البلدان الإسلامية نفسها، السؤال الممل والمكرر، وهو كيف يمكن للمسلمين أن يتخلصوا من داء جماعات الفكر المتطرف والأعوج، والمستند إلى أفكار وتفسيرات لا علاقة لها بجوهر الإسلام وتعاليمه؟

ضرورة التصدي الشامل

هذا التساؤل يعني أن المسؤولية تقع في شقها الأكبر على الذين يُـدركون جوهر العقيدة الإسلامية وتمسّـكها بالحفاظ على النفس البشرية في كل الظروف، ونشر الخير في العالم كله ومنع الإفساد في الأرض، ورفض الغلو في الدعوة والتمسك بالتسامح إزاء المخالفين في العقيدة والدين.

فهؤلاء الذين يُـدركون جوهر العقيدة على هذا النحو، عليهم أن يتصدّوا بكل قوة إلى الذين حادوا بها عن جوهرها، وأحالوها إلى نوع من تحليل الحرام وجواز قتل النفس بغير حق، ونشر الدمار والاستكبار على الغير.

فالمسألة، وإن تطلّـبت بُـعدا أمنيا لا خلاف عليه، يتعلّـق بمواجهة الجريمة الإرهابية ومنفذيها والقصاص منهم بالقانون، فإنها تبدأ أساسا بتصحيح جوهر العقيدة والإدراكات الملتبسة والخاطئة عن أولويات الشرع ومقاصده العليا، وبلورة تفسير الجهاد كوسيلة روحية لتحصين الروح البشرية وتخليصها من أثامها والتقرب إلى الله.

مسؤولية المؤسسات الدينية الاسلامية

وما دام الأمر فكريا وعقيديا بالدرجة الأولى، فثمة مسؤولية أساسية على المؤسسات الدينية في البلدان الإسلامية لمواجهة ظاهرة الإرهاب المتدثر بالدين، وثمة حاجة ماسة إلى تحرك واع يمزج بين الفعل الإيماني والدعوى السليم.

ويقينا، أن الفعل الفكري الديني هو الأخطر والأهم لأنه يتعامل مع النفوس والعقول التي يمكن بدورها أن تصمد على الحق أو أن تنزلق إلى الهاوية.

والأمر ببساطة بحاجة إلى نهضة فكرية بالمعنى الشامل في حياة المجتمعات المسلمة، بما في ذلك نهضة إيمانية تتعلّـق بالفكر الديني السائد فيها، وضرورة القيام بحركة اجتهادية ونقدية للكثير من القيم والأفكار السائدة، التي يتصور البعض قليلي العلم والثقافة أنها من صحيح الدين، وهي ليست كذلك، وتلك بدورها بحاجة إلى شجاعة رجال الدين القائمين على المؤسسات الإسلامية من أجل الدين والعقيدة والوطن.

وحين تفعل المؤسسات الدينية ذلك، فإنها تلبي نداء العقيدة قبل كل شيء، وبعده نداء الوطن والإنسانية معا.

الاستمرارية والشمولية

ولسنا هنا بصدد التذكير بأن الدين الإسلامي يواجه حملة شرسة وعملية تشويه منهجية على أعلى مستوى، تشارك فيها قنوات وأدوات تأثير عالمية، وتمتلك قدرة الوصول إلى جنبات الأرض الأربعة، وتستهدف جميعها تفكيك هذا الدين الحنيف والتعامل معه بالقطعة ومن منظور جزئي ودنيوي لا علاقة له بمنظومة العقيدة الإسلامية ككل، وهي حملة تجد في الأعمال الإرهابية التي يتورط فيها مسلمون متطرفون مادة لتأجيج نار العداء لكل ما هو إسلامي، وهو أمر يضع على كاهل المؤسسات الدينية في العالم العربي والإسلامي عبئا كبيرا، ودورا لا غنى عنه في هذه المواجهة، وذلك وفق مستويين متكاملين:

أولهما، مستوى الخطاب الديني الموجه للداخل والهادف إلى تنقية الأفكار الدينية السائدة مما علق بها، وهي من خارج الدين نفسه وتضر به وتضر المعتقدين في صحتها، وتضر أيضا المجتمع الذي تنتشر فيه مثل هذه الأفكار الضالة.

ولعل النموذج الأبرز هنا ما يشير إليه أمير سعودي بارز، وهو خالد الفيصل، حين قال إن بلاده أخطأت حين اكتفت بالقصاص من المتطرفين أنصار جهيمان العتيبة، الذين هاجموا الحرم المكي عام 1979، ولكنها تركت الفكر المتطرف نفسه يرعى في المجتمع، فكان أن عاث في البلاد فسادا وكلفها الكثير لاحتوائه والحد من أضراره. والمعنى هنا لا يحتاج إلى تعليق، فالفكر الفاسد يتطلب مواجهة فكرية حاسمة ولا شيء آخر، وإلا كان الثمن باهظا..

وثانيهما، مستوى الخطاب الديني الموجه للخارج غير المسلم والمتعمد تشويه الدين الإسلامي لأسباب شتى. والحق هنا، أننا نسمع الكثير حول ضرورة تجديد الخطاب الديني الاسلامي الموجّـه للغير منذ هجمات 11 سبتمبر المشؤومة، وهناك بالفعل بعض جهود بُـذلت في هذا الصدد، ولكن غلب عليها الآنية وعدم الاستمرارية والجهود الفردية.

دراسة منهجية ثم تفكيك

والمتصور أن خطة متكاملة تعمل عليها المؤسسات الدينية الإسلامية الكبرى بصورة جماعية لنصرة الدين الاسلامي، ويكون لكل منها دور محدد تقوم به، على أن تتم عملية مراجعة وتقويم كل فترة من الزمن لقياس الأهداف المتحققة والعثرات الظاهرة والخفية، يُعد الاقتراب الأمثل للوقوف أمام حملة عالمية منظمة بلا سقف زمني أو مالي أو إعلامي.

والحق هنا أن هؤلاء الذين عليهم واجب التصدي للأفكار الدينية المتطرفة، عليهم بداية الدراسة المنهجية لمُـجمل أفكار تنظيم القاعدة وجماعات الجهاد والتكفير، التي انتشرت في فترة سابقة، وأفكار حزب التحرير الإسلامي، كخطوة أولى لوضع استراتيجية تفكيك هذه الأفكار وبيان فسادها الشرعي، وتقديم التفسيرات الشرعية المتماهية مع روح العقيدة في إعمار الأرض وإجلال خالقها.

وبدون مثل تلك الدراسات المنهجية للفكر المتطرف، سوف تصبح عملية المواجهة المفترضة مجرد رد عابر على أفكار متطرفة وغير شرعية، ولكنها تجد الكثير من أدوات الإقناع والنشر وجذب المناصرين لها بكل السبل.

وما دام الأمر فكريا وعقيديا، فإن تواصل المواجهة وانتشارها لا مفر منه، مع الأخذ في الاعتبار أن هذين المستويين يتطلّـبان المساندة الكاملة من كل المؤسسات العاملة في المجتمعات الإسلامية، لاسيما مؤسسات التنشئة والتعليم والإعلام، وبدونها سيظل الأمر قاصرا عن بلوغ أهدافه الأساسية.

د. حسن أبوطالب – القاهرة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية