من مناجم السودان إلى مصافي سويسرا…الذهب الإماراتي يغذّي الصراع بين الأشقاء
أعادت المجازر المروّعة في الفاشر الحرب في السودان إلى صدارة الاهتمام العالمي في جنيف. وتسلّط منظمة سويسرية غير حكومية الضوء على تجارة الذهب المزدهرة في الإمارات العربية المتحدة، والتي يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها مصدر رئيسي لتمويل الصراع.
مأساة الفاشر: صمت دولي يمهّد للإبادة
وقال سفير السودان لدى مكتب الأمم المتحدة في جنيف، حسن حامد، للصحفيين يوم الثلاثاء إن “المأساة التي تتكشف في الفاشر (في غرب السودان) ليست مفاجأة… إنها نتيجة مباشرة لتقاعس المجتمع الدولي”. وحذّر من أن “الصمت الدولي مكّن من حدوث إبادة جماعية.”
واندلعت الحرب في السودان في أبريل 2023 نتيجة صراع على السلطة بين الجيش وقوات الدعم السريع شبه العسكرية. وسرعان ما استقطبت هذه القوات، التي تعود جذورها إلى ميليشيات الجنجويد في دارفور، والتي ارتكبت إبادة جماعية ضد المدنيين هناك قبل عقدين من الزمن، أسلحة ثقيلة ودعمًا أجنبيًا. وقد أسفر الصراع حتى الآن عن مقتل عشرات الآلاف، وتشريد أكثر من 14 مليون شخص، ودفع أجزاء من البلاد إلى المجاعة.
وفي الأسبوع الماضي، استولت قوات الدعم السريع على الفاشر، آخر معاقل الجيش في المنطقة، بعد أسابيع من الحصار والقتل الواسع لدرجة أن صور الأقمار الصناعية أظهرت شوارع ملطخة بالدماء يمكن رؤيتها من الفضاء. وحذرت جماعات حقوقية من وقوع مجازر عرقية، ومجاعة تحاكي الفظائع التي شهدتها دارفور في السابق.
وفي جنيف، أشارت منظمة الصحة العالمية إلى مقتل أكثر من 460 مريضًا ومريضة، وأفراد عائلاتهم في هجوم واحد استهدف مستشفى في 28 أكتوبر الماضي. كما تعرّض مستشفى الولادة بالمدينة إلى خمسة هجمات في الشهر نفسه. وفي هذا الصدد، صرّحت تيريزا زكريا، رئيسة العمليات الإنسانية في منظمة الصحة العالمية ( WHO)، للصحفيين في 31 أكتوبر، قائلة: “لا ينبغي لأي مريض أو فرد من عائلته أن يخشى على حياته، وهو يسعى للحصول على الرعاية الصحية، ولا ينبغي للعاملين·ات في مجال الصحة أن يخاطروا·ن بالإصابة أو الموت أثناء إنقاذ الأرواح”. ولا يزال أقل من نصف المرافق الصحية يعمل في السودان.
الذهب يغذي الصراع
مع استمرار الحرب في السودان، يزداد تألق بريق ذهبه في الأسواق العالمية. وتحذّر منظمة “سويسايد” (Swissaid) غير الحكومية ومقرها برن، من أن أرباح هذه التجارة الملطخة بالدماء لا تزال تجد مشترين، وذلك بشكل رئيسي عبر مركز الذهب المزدهر في الإمارات العربية المتحدة، التي يُزعم أنها تدعم قوات الدعم السريع.
وقال المبعوث السوداني لدى الأمم المتحدة في جنيف: «إن مورّد الأسلحة لقوات الدعم السريع معروف جيدًا. وللأسف، إنها الإمارات العربية المتحدة».
إن إثبات تورّط الإمارات في حرب السودان مسألة معقّدة وغامضة. فبينما تحافظ أبوظبي على علاقات اقتصادية قوية مع الحكومة السودانية التي يقودها الجيش، يزعم الجيش السوداني أن الإمارات دعمت سرًا قوات الدعم السريع المنافسة، والتي اتهمتها الولايات المتحدة والأمم المتحدة بارتكاب جرائم حرب.
وتُظهر بيانات البنك المركزي السوداني أن الإمارات استوردت حوالي 90% من صادرات السودان الرسمية من الذهب في النصف الأول من عام 2025، مما يؤكد نفوذها الاقتصادي الكبير. وقد ربط تحقيق حديث أجرته منظمة “ذا سنتري” (The Sentry) شركات مقرها دبي بغسل الذهب السوداني غير المشروع لصالح مموّلي قوات الدعم السريع.
وساهم سوق الذهب في دبي، وهو أحد أكبر الأسواق في العالم، في تمكين التدفقات المالية غير المشروعة، مما أدى إلى وضع الإمارات على القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF) بين عاميْ 2022 و2024. وقد أشارت مجموعة العمل المالي، التي تراقب الجهود العالمية لمنع غسل الأموال وتمويل الإرهاب، إلى ضعف الرقابة على تجارة الذهب، وعلى المناطق الحرة. وقد أُزيلت الإمارات من القائمة بعد اعتماد لوائح تتماشى مع معايير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) التي تحظر استيراد الذهب المرتبط بمناطق النزاع.
وبالاستناد إلى بيانات “كومتريد” (UN Comtrade) التابعة للأمم المتحدة، تشير سويس إيد إلى أن الإمارات استوردت 29 طنًا من الذهب مباشرة من السودان في عام 2024، بزيادة تبلغ 17 طنًا مقارنة بالعام السابق، بالإضافة إلى كميات كبيرة تم توجيهها عبر مصر (27 طنًا)، وتشاد (18)، وليبيا (9). وتؤكد سويس إيد أن هذه التدفقات تبرز الدور المركزي للإمارات في تمويل حرب السودان.
ويقول مارك أوميل، رئيس قسم السلع في المنظمة السويسرية: «إنه ذهب قادم من مناطق النزاع. وسواء كان يأتي من قوات الدعم السريع أو من القوات المسلحة السودانية، فمن الواضح أنهم يموّلون مشاركتهم في الصراع بهذه التجارة من الذهب، وعلى الرغم من وجود موارد تمويل أخرى، فإن الذهب هو العنصر الرئيسي في تمويل الأطراف المتحاربة في السودان”.
ومنذ انهيار أسعار النفط في العقد الثاني من الألفية، بنت النخب السياسية والعسكرية في السودان اقتصاد الحرب على الذهب، إذ اُقتسمت المناجم وطرق التهريب بين الجيوش المتنافسة. وقد أشار خبراء الأمم المتحدة منذ فترة طويلة إلى قطاع الذهب كمصدر حيوي للإيرادات لكلا الطرفيْن. وتخضع الشبكات الاقتصادية للأطراف المتحاربة بالفعل لعقوبات أمريكية وأوروبية وأممية.
وخلص معهد الأبحاث “تشاتام هاوس” (Chatham House) ومقرها لندن، في تقرير صدر في مارس 2025، إلى أن «تجارة الذهب التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات تغذّي النزاع في السودان». وتقول سويس إيد إن أحدث نتائجها تؤكد «دور الإمارات كوجهة رئيسية للذهب السوداني المهرّب»، كما هو موثّق في تقريرها عن الذهب الأفريقي الذي نُشر في مايو 2025.
وذكرت المنظمة غير الحكومية أن بيانات الإمارات لعام 2024 كانت متاحة لفترة وجيزة على منصة “كومتريد” (UN Comtrade) قبل سحبها. وقالت كومتريد إن «البيانات قيد التدقيق المزدوج بسبب بيانات غير اعتيادية في عام 2024». ومن المقرر أن تخضع الإمارات لمراجعتها التالية من قبل مجموعة العمل المالي (FATF) في عام 2026. وقد رفضت هذه الدولة الخليجية علنًا اتهامها بتقديم أسلحة أو دعمًا عسكريًا لأي طرف مشارك في الحرب في السودان.
ثغرات في نظام العقوبات السويسرية
وفقًا لسويس إيد، فإن سويسرا «متورّطة بشكل مباشر» في «تجارة الذهب السوداني” المثيرة للجدل، لأنها تستورد ذهبا من الإمارات، لا يُعرف مصدره الحقيقي. فبين يناير وسبتمبر 2025، استوردت سويسرا ما مجموعه 316 طنًا من الذهب بقيمة 27 مليار فرنك سويسري من الإمارات العربية المتحدة. وهو ما يمثل أكثر من ضعف المتوسط السنوي منذ عام 2015.
وقال أوميل لسويس إنفو: «عندما تنظر إلى الزيادة في الذهب المستورد إلى سويسرا من الإمارات، فإن الأمر مقلق حقًا. فمن الواضح أن لدينا ثغرة هنا في تطبيق العقوبات. وهناك خطر من أن يكون هذا الذهب قد استُورد في انتهاك للعقوبات المفروضة على السودان، ويجب على السلطات السويسرية التحقيق في ذلك”.
وقد قامت سويسرا بتحديث إطار عقوباتها على السودان بشكل تدريجي ليتماشى مع قرارات مجلس الأمن الدولي المتجددة، ولتشديد الرقابة على التدفقات المالية، خاصة والمتعلقة بالأسلحة.
وتشير أمانة الدولة للشؤون الاقتصادية (SECO) إلى أن جميع مستوردي الذهب في سويسرا مطالبون قانونًا بإبداء العناية الواجبة عند التوريد من مناطق النزاعات أو عالية المخاطر لضمان عدم تمويل سلاسل التوريد الخاصة بهم·ن للنزاعات المسلحة. لكن أمانة الدولة للشؤون الاقتصادية «لا يمكنها ضمان مصدر الذهب المستورد إلى سويسرا على وجه اليقين”.
المزيد من الشفافية في عام 2026؟
من المقرر أن تتغير ديناميات الإبلاغ في سويسرا. حيث تخطط الرابطة السويسرية للمعادن الثمينة (ASMP) لإطلاق سجل عام في عام 2026 يكشف عن مزيد من المعلومات حول مصدر المعادن المعالجة هنا. لكن أوميل يحذّر من أن هذا الإجراء سيكون له تأثير محدود لأن شركة “فالكامبي” (Valcambi)، وهي مصفاة سويسرية تستورد الذهب من الإمارات، قد غادرت الرابطة، مما يعني أن بياناتها لن تظهر في السجل.
ويقول سيمون كنوبلوخ، مديرة العمليات في فالكامبي، إن المصفاة «تطبّق إجراءات توريد مسؤولة منذ عقود» لمنع الذهب غير المشروع ذي المصدر المشكوك فيه من دخول سلسلة التوريد الخاصة بها، بما في ذلك من الإمارات العربية المتحدة. وتقبل المصفاة الشحنات من مصفاتين إماراتيتين معتمدتين فقط، ويتم التحقق منها سنويًا وتتبعها من خلال “حل يسمح لنا بتخزين تفاصيل المتعاقدين من الباطن في برنامج يقوم، بفضل سلسلة الكتل “بتجميد” بيانات الإمدادات الواردة من المصافي المعتمدة.”
وجميع المصافي السويسرية الكبرى، بما في ذلك فالكامبي و”ميتالور” (Metalor)، أعضاء في رابطة سوق السبائك الذهبية في لندن (LBMA). وهذا يتطلب الامتثال لمعايير العناية الواجبة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). ومع ذلك، تحذّر سويسايد من أن الثغرات في إمكانية التتبع والعناية الواجبة والشفافية لا تزال قائمة. وقد أثارت المفوضية الأوروبية أيضًا مخاوف بشأن العناية الواجبة فيما يتعلّق بالمعيار.
تُرجم هذا التقرير بالاستعانة بأدوات ترجمة آلية وقام فريق التحرير بمراجعته وتدقيقه لغويًا لضمان الدقة والوضوح، كما تم التحقق من مطابقته للنص الأصلي.
تحرير: فيرجيني مانجان
ترجمة: عبد الحفيظ العبدلّي
مراجعة: مي المهدي
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.