مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“الجزرة من دون عصا”

يرى مراقبون أن الموقف الأوروبي من التحديث السياسي في البلدان العربية لا زال مائعا ومترددا قياسا على الموقف الأمريكي swissinfo.ch

مازالت المضامين الحقيقية لسياسة الجوار الجديدة التي اعتمدها الإتحاد الأوروبي، غير واضحة في البلدان العربية الشريكة للإتحاد.

فهناك من رأى فيها تراجعا عن التعهدات السابقة، أملاه انضمام الأعضاء العشرة الجدد إلى الإتحاد، وهناك بالمقابل من أبدى بعض التفاؤل، نظرا للحوافز المزمع منحها للبلدان المتجاوبة مع معايير سياسة الجوار.

في جميع الحالات، يمكن القول أن “الجوار الجديد” هو عنوان انعطاف في تعاطي الإتحاد الأوروبي مع البلدان الواقعة في دائرة محيطه الجغرافي المباشر، إذ أنه سيشكل إطار العلاقات بين الجانبين في الفترة بين 2007 و2013 .

وأوضح برنار فيليب، مدير الشؤون الاقتصادية والتجارية في الإتحاد لسويس انفو، أن مفهوم الجوار هو سياسة جديدة وخصوصية، تستند على معيار القرب الجغرافي. فهي تهم النطاق المحيط بالإتحاد بعد توسعته إلى الأعضاء العشرة الجدد، لكنها لا تشمل البلدان المبوبة للدخول إلى الإتحاد، مثل رومانيا وبلغاريا وكرواتيا وتركيا.

وعليه، فإن البلدان المعنية تتألف تحديدا من أربع مجموعات هي أولا، الشركاء العرب للإتحاد (سوريا ولبنان والأردن وفلسطين ومصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا) زائد إسرائيل. وثانيا، بلدان جنوب القوقاز (جورجيا وأرمينيا وأذربيجان). وثالثا، البلدان الشمالية (أوكرانيا ومولدافيا وروسيا البيضاء). ورابعا، الإتحاد الروسي.

وتبلورت سياسة الجوار من خلال وثائق عديدة انطلاقا من عام 2002، أهمها الدستور الأوروبي (الفصل الثامن من الباب الأول) والتي ساهمت في إعطاء محتوى أكثر دقة لمعنى الجوار.

“القيم المشتركة والمصالح المتبادلة”

وتم تضمين هذا المحتوى في سبع “وثائق توجيهية” أعدت في العام الماضي، وخصَت كل واحدة منها بلدا من بلدان الجوار السبعة الأساسية، وهي المغرب وتونس والسلطة الفلسطينية والأردن وإسرائيل ومولدافيا وأوكرانيا، إضافة إلى “تقارير” خصوصية أعدت في بداية السنة الجارية، وتعلقت بخمسة بلدان أخرى، هي مصر ولبنان وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان.

واعترف أندرياس هردينا، مدير عام دائرة العلاقات الخارجية في الإتحاد في تصريح لموقع سويس انفو، أن “الإصلاحات الدستورية والسياسية والاقتصادية، بما فيها الحكم الراشد، هي العنوان الكبير للأجندة المشتركة بين الإتحاد والبلدان المحيطة به “بغية تكريس التصرف في الفضاء المشترك بين الجيران”، على حد تعبيره.

ويشدد الأوروبيون على أن العلاقات بين الإتحاد وكل بلد جار، ينبغي أن تنهض حصرا على “القيم المشتركة والمصالح المتبادلة” مع الجيران، وهذا يعني أن “تنضبط” الأطراف الأخرى للمرجعيات الأوروبية، وأن يحدد حجم التعاون معها على قدر استجابتها للمعايير “المشتركة”، التي من ضمنها اقتصاد السوق والشفافية، ودولة القانون ونبذ العنف، واحترام حقوق الإنسان، واستقلال القضاء، والانتخابات النزيهة، لكن من دون أن يفتح ذلك أفق الانضمام للإتحاد أمام تلك البلدان.

وهنا يكمُـن جوهر التعديل بالمقارنة مع السياسة السابقة. فـ “الجوار” مرادف لمنزلة محددة، تؤهل صاحبها للحصول على المزيد من المساعدات الاقتصادية والمالية، إذا ما تقدم في تنفيذ الإصلاحات.

تحديد الأولويات

وقال أندرياس هردينا، “إن هذه الرؤية، ستطبق من خلال وضع أجندة للإصلاحات السياسية والاقتصادية خاصة بكل بلد جار، وتحديد الأولويات على الأمدين، القصير والمتوسط في ضوئها، وضبط التوجهات المتعلقة بالمساعدة الأوروبية”. وبتعبير آخر، فإن الإتحاد سيلجأ مستقبلا إلى نوع من المقايضة تقوم على معادلة الإصلاحات – المنح.

فكلما تقدم بلد في مسار التحديث، استحق مزيدا من المساعدات والمنح من الإتحاد، وبالمقابل، إذا ما تلكأ آخرون أو تراخوا في تنفيذ الإصلاحات، قلَل الإتحاد من الدعم الاقتصادي والمالي المقرر لهم أو حجبه تماما عنهم عند الاقتضاء.

ودافعت ساندرا برات، وهي أحد المساهمين في صوغ هذه الآلية عن المنهج الأوروبي، الذي اعتبرت في تصريح لسويس انفو، أنه “أفضل من الأسلوب الأمريكي العنيف في التعامل مع المتقاعسين”. وقالت “هم يستخدمون العصا والجزرة، أما نحن، فنقتصر على الجزرة فقط”.

إلا أن هذا الاختلاف في الأسلوب، يُـنظر إليه في بلدان الجنوب على أنه تفاوت في صدقية الالتزام بخيار الإصلاحات. فهناك قطاع واسع من النخب المغاربية على سبيل المثال، يستحسن الضغوط التي تمارسها الإدارة الأمريكية الحالية على الحكومات كي تمضي في طريق التحديث، وإن كان يستهجن في الوقت نفسه السياسة الأمريكية في العراق وفلسطين.

“الثغرة الكبيرة”

وفي هذا السياق، اعتبر أحمد ونيس، الدبلوماسي والباحث التونسي أن الموقف الأوروبي من التحديث السياسي في البلدان العربية مائع ومتردد قياسا على الموقف الأمريكي.

ويؤيد هذا الرأي سياسيون وبرلمانيون أوروبيون يُـعاتبون حكوماتهم على قلة التزامها بدفع مسار الإصلاحات في بلدان الجنوب، بسبب تغليب المصالح التجارية الآنية.

وقال جيرار أونيستا (فرنسي)، نائب رئيس البرلمان الأوروبي في تصريح أدلى به لسويس انفو في مكتبه في بروكسل، “إن أحد نقائص مسار برشلونة طيلة السنوات العشر التي مضت منذ انطلاقه، هي أن الإتحاد الأوروبي لم يتحرك بما فيه الكفاية في مجال ترسيخ الديمقراطية والحكم الراشد واستقلال القضاء وحرية الإعلام”. وشدد على ضرورة تدارك هذه “الثغرة الكبيرة” لدى تقويم حصاد المرحلة الماضية في الاجتماع الأورو متوسطي، الذي تستضيفه برشلونة في الذكرى العاشرة لإطلاق المسار في نوفمبر المقبل، والحذر من العودة إليها.

مع ذلك، يرى مثقفون مغاربيون أن سياسة الجوار الجديدة ستؤدي إلى “تنصل أوروبا من مسؤولياتها على هذا الصعيد، لكونها تعهدت بتشجيع المجتهدين ومكافأتهم في مقابل تجاهل المتلكئين، الذين لن يبالوا أصلا، إذا ما تُـركوا وشأنهم”.

ويشعر قطاع مهم من النخب الأهلية، أن سياسة التجاهل والنبذ التي اختارت أوروبا أن تسلكها تجاه المتقصين من استحقاقات الإصلاح، هي نتيجة للملل والإنهاك اللذين أصاباها من التعاطي مع قيادات حاكمة غير متحمسة للتحديث والإصلاحات.

الخاسر من “سياسة الجوار”

ورأى الدكتور عزام محجوب، نائب رئيس الجمعية العربية للدراسات الاقتصادية أن حصاد الشراكة الأوروبية – المتوسطية لم يُـظهر أن الفجوة التنموية بين ضفتي المتوسط ما انفكت تتسع وحسب، وإنما كشف أيضا محدودية الدور الأوروبي في دفع الإصلاحات السياسية والدستورية لدى شركائه.

ويعطي نشطاء حقوقيون وسياسيون كثر في بلدان الجنوب الانطباع بكونهم يشعرون بخيبة أمل من الموقف الأوروبي في المرحلة المقبلة، لقلة حزمه في قضايا الإصلاح، وهم يتوقعون مزيدا من التراجع في هذا الموقف بعد الانطلاق في سياسة الجوار.

والأرجح، أن قوة الإغراء التي تمارسها السياسة الأمريكية المتشددة مع الحكومات المحلية، ستزيد مع إصرار كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية على عدم التسامح مع المتلكئين في السير على طريق الإصلاح.

ومن شأن التراجع المتوقع في سياسة أوروبا على هذا الصعيد، أن يجعل المترددين في المفاضلة بين القوتين أكثر ميلا إلى الجانب الأمريكي، على الرغم من التحفظات الأخرى على سياساته.

قصارى القول، أن سياسة الجوار ستدخل تعديلات مهمة على تعاطي الإتحاد الأوروبي مع بلدان الضفة الجنوبية للمتوسط، وخاصة شركاءه العرب، بربط التعاون الاقتصادي بمدى التقدم في مجال الإصلاحات.

غير أن غالبية النخب في البلدان المعنية تلقّـت السياسة الجديدة بكثير من القلق والشك، لكونها تخشى من تراجع الإتحاد عن التزاماته بالدفاع عن قضايا التحديث السياسي والاجتماعي، وهي تتوجس خيفة من كون الأوروبيين عاقدين العزم على سلوك الطريق السهلة المتمثلة بتوثيق العلاقات مع من يتجاوب معهم في مجال الإصلاحات، وغض الطرف عن المتقاعسين، مما يعني أن الخاسر الأكبر من “سياسة الجوار”، هو المجتمع الأهلي في البلدان المجاورة التي تحجم قياداتها عن المُـضي في درب الإصلاح.

رشيد خشانة – تونس

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية