مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

صحوة فـُسيفساء البلقان في سويسرا؟

أكثر من خُمس أبناء البلقان المقيمين في سويسرا (وعددهم الإجمالي 370 ألف) وُلدوا في الكنفدرالية Keystone

في بادرة غير معهودة، انعقد في زيورخ ما بين 17 و19 سبتمبر الجاري منتدى متعدد الثقافات حضرته شخصيات من دول البلقان وأبناءُ هذه المنطقة المقيمون في سويسرا.

المنتدى كان مناسبة لتسليط الضوء على أوضاع أبناء أكبر جالية أجنبية في سويسرا.. أبناء باتوا يُنعتون بـ”المجرمين البدائيين” بعدما كانوا يوصفون بـ”المثـقـفين المُنتجين”!

غالبا ما يرتبط ذكرُ أبناء يوغوسلافيا السابقة في وسائل الإعلام السويسرية باللجوء وإحصائيات السجون والإجرام، والمتاجرة بمخدر الهيروين، والمشاجرات بالسلاح الأبيض وحتى بإطلاق النار.. لدرجة أن المُتلقي لهذه الأنباء المتشابهة والمتكررة يكاد ينسى أن لهذه الجالية تاريخ لا يقل عن أربعة عقود في الكنفدرالية، وأنها ساهمت أيضا في بناء سويسرا على المستويين الاقتصادي والثقافي.

صحيح أن السجون السويسرية ممتلئة بالدرجة الأولى بأبناء دول يوغوسلافيا السابقة، وصحيح أنهم يتورطون مرارا في قضايا المخدرات والشجار الدامي، وصحيح أيضا أن الحرب التي اندلعت في منطقة البلقان في نهاية التسعينات تسببت في تدفق سيل كبير من اللاجئين على سويسرا.

لكن 10% فقط من مجموع هذه الجالية -التي لا تقل عن 370 ألف شخص- وطأت الأراضي السويسرية من باب اللجوء. أما باقي أبناء البلقان المقيمون في سويسرا فقد قدموا إليها منذ الستينات كعمال موسميين أو كأطر متخصصة.

الحقبة “المُشرفة”

في تلك الفترة، كان المهاجرون “اليوغوسلاف” (آنذاك) يتمتعون بصورة إيجابية في سويسرا. فبفضل الاتفاق الذي أبرمته برن وبلغراد في عام 1965، تمكنت سويسرا من استقطاب نخبة من صفوة المهندسين والأطباء وأطباء الأسنان الذين تكونوا في ظل نظام التعليم الممتاز في عهد الجنرال تيتو. واستفادت سويسرا كثيرا من هذه الكفاءات والخبرات اليوغوسلافية، علما أنها كانت تفتقر لأطباء الأسنان في الستينات والسبعينات، خاصة في القرى.

هجرة المثقفين اليوغوسلافيين إلى سويسرا تزامنت أيضا مع اجتذاب هذه الأخيرة لليد العاملة البلقانية الجادة والرخيصة. النائب البرلماني السويسري أولي لوينبرغر، مؤسس الجامعة الشعبية الألبانية في جنيف، يتذكر في تصريحات أدلى بها لمجلة “إيبدو” الإخبارية الأسبوعية (عدد 9 سبتمبر 2004) أن إحدى شركات البناء في جنيف تحولت عام 1965 إلى قرية جيجلان في كوسوفو لتوظيف 300 عاملا.

وكان يُشتهر ألبان كوسوفو آنذاك بالقوة والجدية والنظام وعدم إثارة المشاكل، لدرجة أن خشيتهم على سمعتهم الطيبة كانت تدفعهم إلى إجبار أي مواطن لهم لا يتقن عمله على العودة إلى قريته الأصلية.

وأثناء الثمانينات، وظف قطاع البناء السويسري بمفرده أكثر من 40 ألف شخص من كوسوفو ليساهم أبناء البلقان بفعالية في بناء سويسرا مثلهم مثل أبناء إيطاليا وإسبانيا والبرتغال.

عقود التدهور

لكن مع إلغاء الرئيس اليوغوسلافي السابق سلوفودان ميلوزيفيتش لوضع الحكم الذاتي لكوسوفو عام 1989، ثم اندلاع الحرب ضد سلوفينيا وكرواتيا ثم البوسنة في 1992، انقلبت حياة سكان تلك المنطقة رأسا على عقب وتسارعت وتيرة شمل الأسر ليلتحق آلاف أبناء البلقان بأقربائهم المقيمين في سويسرا.

وزادت الطين بلة الحرب على إقليم كوسوفو في عام 1999 لتجد سويسرا نفسها أمام أعداد هائلة من رعايا البلقان الذين أصبحوا يشكلون منذ عام 1998 أكبر جالية أجنبية في سويسرا وأكبر جالية مسلمة أيضا.

وانضاف لهذا الثقل العددي للاجئين، الحديث المتزايد عن سيطرة المافيا الألبانية على سوق المتاجرة بالمخدرات في سويسرا لتصاب سمعة أبناء البلقان بتشوه لازال صداه عالقا في الأذهان إلى يومنا هذا.

توماس كيسلر، المندوب في قسم الاندماج في كانتون بازل المدينة، يلخص هذا الموقف بالقول في حديث مع مجلة “إيبدو”: “أبناء يوغوسلافيا السابقة كانوا يتمتعون بصورة المثقفين أو الأشخاص المنتجين، وأصبحوا ينعتون بالمجرمين والبدائيين”.

لحظة اليقظة

ضمن هذا الإطار، بادر الصحفي السويسري جاك بيلي بتنظيم منتدى يهدف إلى الاعتراف بدور أبناء البلقان في بناء الغنى المادي والثقافي لسويسرا. وتواصل منتدى “صوت أوروبا: أمل البلقان” بنجاح من 17 إلى 19 سبتمبر الجاري في زيورخ.

هذا اللقاء المتعدد الثقافات تميز بمشاركة وزيرة الخارجية السويسرية ميشلين كالمي راي يوم افتتاح المنتدى، وحضور عدد من الشخصيات التي تم استدعاءها لإثراء النقاش من دول يوغوسلافيا السابقة، من صربيا وكرواتيا والبوسنة ومقدونيا والجبل الأسود وسلوفينيا وكوسوفو، إضافة إلى ممثلين عن أبناء البلقان المقيمين في سويسرا.

وتمكن المشاركون العشرون أثناء ورشة العمل التي خُصصت يوم السبت 18 سبتمبر لقضية الهجرة والمهاجرين من يوغوسلافيا السابقة إلى سويسرا من إثارة جملة من المحرمات والمحاور الأساسية. وبرزت من خلال النقاش والشهادات صعوبة إيجاد عمل أو كراء شقة في سويسرا عندما يكون الإسم العائلي ينتهي بـ”يتش” مثل ميلوزيفيتش على سبيل المثال، حتى أن عددا من رعايا البلقان باتوا يختصرون إسمهم تفاديا لأي نوع من التمييز.

معضلة الأحكام المسبقة

وفي هذا السياق، شدد ديجان مكيتش، المستشار الإجتماعي في منظمة “كاريتاس” الخيرية في زيورخ في حديث مع صحيفة “لوتون” (عدد 20 سبتمبر 2004) على الأهمية القصوى للتكوين كمحرك أساسي للاندماج، وعلى ضرورة أن يوفر هذا التكوين فرصا متكافئة للجميع.

وفضلا عن مسألة التكوين، أثار النقاش في عدة مناسبات دور الإعلام في نقل صورة أبناء البلقان في سويسرا، على ضوء الإعلان المسيء للمسلمين الذي نشرته عدد من الصحف السويسرية في إطار الحملة المضادة لتسهيل إجراءات منح الجنسية للجيلين الثاني والثالث من الأجانب.

وأعرب المتدخلون عن اعتقادهم بأنه يتعين على الصحف توفير المزيد من المعلومات للقارئ السويسري حول المسلمين والإسهام في القضاء على الأحكام المسبقة. وأكد عدد من المشاركين أن “الجهل على وجه التحديد هو الذي يثير مخاوف السويسريين من المهاجرين”.

“العيش جنبا إلى جنب وليس معا”!

منتدى “صوت أوروبا: أمل البلقان” لم يُستهل مباشرة بالنقاش بل اختار المنظمون افتتاحه بشريط قصير للصحفية صونيا زوران بعنوان “مشواة البلقان”. ومن خلال هذا الشريط الذي يعطي الكلمة لثمانية مهاجرين من دول يوغوسلافيا السابقة وكوسوفو، حاولت الصحفية السويسرية، وهي من أب كرواتي سلوفيني وأم سويسرية، عرض واقع وتنوع تلك المنطقة التي تشبه الفسيفساء.

المهاجرون الثمانية حكوا قدومهم إلى سويسرا ونظرتهم لمستقبل البلقان. واتضح من خلال سردهم أن لديهم نظرة مشتركة للعالم وحسا يمكن وصفه بـ”البلقاني”. شهاداتـُهم كشفت أيضا عن الاختلافات التي تميز كل منطقة في البلقان، لكنها أظهرت في نفس الوقت القواسم المشتركة الكثيرة التي تجمعهم والتي تم نفيها بعد طغيان المشاعر الوطنية، ثم اندلاع الحرب وزعزعة المنطقة بأسرها.

هذا عن ماضي يوغوسلافيا السابقة الذي مازالت تتخبط المنطقة في تبعاته، لكن أبناء البلقان في سويسرا يستشفون المستقبل في البلد المضيف وأيضا في الوطن الأم. وما منتدى “صوت أوروبا: أمل البلقان” سوى خطوة أولى للتأمل في فسيفساء البلقان وتكريم إسهامها الإيجابي في بناء سويسرا من جهة، وفي إنعاش اقتصاد دول يوغوسلافيا السابقة من جهة أخرى.

وعن استعراض فسيفساء البلقان في المنتدى، لخصت الصحفية زوران الهدف من اللقاء بالقول: “إن الأمر لا يتعلق بإعادة إحياء يوغوسلافيا، بل الحديث عن هذا الفضاء الجغرافي المشترك بين كافة هذه الشعوب. وكما يوضح شريطنا، هنالك بالفعل إدراك قوي لضرورة تعلم كيفية العيش، ليس جميعا، بل جنبا إلى جنب”.

إصلاح بخات – سويس انفو

يبلغ عدد أبناء البلقان المقيمين في سويسرا 370000 شخص
يمثلون أكبر جالية أجنبية وأكبر جالية مسلمة في الكنفدرالية
36% منهم من إقليم كوسوفو
22% من صربيا والجبل الأسود
16% من مقدونيا
14% من البوسنة
12% من كرواتيا

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية