مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

إدوارد بدين.. نقطة إلتقاء فريدة بين عوالم متشعبة

swissinfo.ch

يقف إدوارد بدين على حدود عوالم متنوعة. فهو مسيحي يدرّس العلوم الإسلامية.. وهو عربي فلسطيني بجواز إسرائيلي حتى عهد قريب.. وهو سويسري الجنسية وقلبه معلق بالناصرة.. وعلى الرغم من أنه لا يملك أي صفة رسمية، فإن الكثيرين يعتبرونه "الناطق باسم القضية الفلسطينية" في سويسرا.

وتتداخل هذه العوالم المتشعبة في صياغة شخصية إدوارد بدين، فتزيدها ألفة وانفتاحا، سمتان أصيلتان في التربة الفلسطينية، وفي طبيعة شعبها، الذي ما كان أحد منه يسأل جاره عن دينه أو عقيدته، “فالدين لله والوطن للجميع”، كما يقول السيد بادين.

لكن النكبة التي حاولت اقتلاع هذه الأمة من الجذور، “أراد صانعوها أيضا أن تشوّه الشخصية الفلسطينية، حتى جاء الوقت الذي أصبح فيه من ليس بيهودي، غريبا، أو هو في المكان الخطأ”.

وإذا كان إدوارد بدين يقف اليوم في صف المدافعين عن أبناء شعبه وحقهم في الوجود على أرضهم وفي وطنهم، فإنه كما يقول: “لم يختر ذلك، لأن الاضطهاد والتضييق اللذان تعرض لهما، لم يتركا له اختيارا آخر”.

أما التزامه السياسي وحرصه على تغيير اتجاه الرأي العام السويسري حول القضية الفلسطينية قهو لا يعدو رد الفعل الطبيعي ذلك أن “الانتماء الوطني أو الثقافي أو الديني يمارسه الإنسان بعفوية وتلقائية، حتى إذا ما تعرض بسببه لتضييق أو اضطهاد، تحوّل إلى قوة دافعة خيّرة أو مدمّرة”.

مخاض اللجوء السياسي

عندما حل إدوار بدين ببازل السويسرية كان الغرض استكمال الدروس العليا، والحصول على الدكتوراه ثم الرجوع إلى الناصرة للإسهام في تطوير قطاع التعليم في موطنه إيمانا منه بأن “السلاح الحقيقي في معركة الوجود هو التعليم، فالأرض تسلب، وموارد الرزق تقطع، وما يبقى في النهاية هو العلم”.

غير أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، لقد أصبح هذا الباحث الفلسطيني مطلوبا لدى السلطات الإسرائيلية، ولا تسأل لماذا، يقول إدوارد: “يوجد في إسرائيل قانون للطوارئ منذ الانتداب البريطاني يسمح لهم باعتقال أي شخص، ثم عليه لا حقا أن يثبت براءته، إن استطاع، وأنّى له ذلك، إذا كانت التهم من صنف أنك تحدثت وتواصلت مع أناس من دول معادية، وإسرائيل تعتبر كل عربي عدوا!”.

كان عليه عندئذ أن يبحث عن مخرج له ولعائلته، فراودته فكرة السفر إلى كندا، لكن ما في الجيب لا يطمئن النفس لما في الغيب، فقرر أن يجرب حظّه، ويتقدم بطلب للجوء السياسي، على الرغم من إدراكه بأن ذلك مخاض صعب: “فالنظرة السائدة في سويسرا آنذاك، هو أن إسرائيل واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط”.

ست وثلاثون سنة إذن قضاها هذا الجامعي في سويسرا لاجئا سياسيا، تحصل خلالها عن حق المواطنة، لكنها لم تنجح في قطع خيط الوصل بينه وبين الناصرة والقدس، أو منعه عن أداء واجبه تجاه فلسطين. لقد انتقلت معه المعركة إلى الخارج، وأصبح رهانه الأكبر المساهمة بفعالية في تغيير الرأي العام السويسري تجاه مجريات الأحداث في منطقة الشرق الأوسط، والقضية الفلسطينية على وجه الخصوص.

تحول جذري في اتجاه الرأي العام

يتذكّر إدوارد بدين السنوات الأولى من إقامته في سويسرا، حينما كان التأييد والتعاطف مع إسرائيل في أوجه، إذ لا تزال المواقف الأوروبية آنذاك محكومة بعقدة الذنب لما لاقاه اليهود من اضطهاد في النصف الأول من القرن الماضي، وكذلك للتأثير الكبير الذي تركته وسائل الإعلام المناصرة لإسرائيل والتي يفضّل إدوارد بدين تسميتها “بشركات الأخبار”، المروّجة لصورة “الفلسطيني الإرهابي”، مما أشاع جوا سلبيا عن كل ما هو عربي في النهاية.
لكن تلك الصورة، “اهتزت بشكل جذري منذ غزو إسرائيل للبنان، وحدوث مجزرة صبرا وشاتيلا، و قيام الصحافيين السويسريين أكثر فأكثر بزيارات ميدانية للأراضي المحتلة”. وتعود بداية هذا التحوّل إلى 25 سنة مضت.

وبحسب السيد بدين دائما: “الإعلام السويسري اليوم محايد جدا تجاه قضايا الشرق الأوسط، لا بل إن المواقف الرسمية السويسرية أصبحت جريئة وعادلة”. ويضرب على ذلك مثلا الموقف من الجدار الفاصل، ومن حصار غزة.

لكن الوصول إلى هذه المرحلة لم يكن سهلا، إذ تطلب الأمر من المناصرين للشعب الفلسطيني: “التزام الصدقية التامة في ما يقولون، وممارسة النقد الذاتي متى ما اقتضى الحال، وإرسال الوفود للتحقق من الوقائع ميدانيا”.

هل معنى هذا أن الوضع على أحسن ما يرام، يجيب بادين: “ما ينقص أعمالنا نحن العرب الناشطون في الغرب هو النظام والاستمرارية، وهما الشرطان الرئيسيان لتحقيق الفعالية والتأثير”. ولقد تنبه هو نفسه لهذه الحقيقة بعد تأسيسه لجمعية خيرية تعتني بجمع التبرعات لابناء المخيمات في لبنان وفي الأراضي المحتلة. ويأسف إدوارد بادين عندما يرى كيف يجتهد سويسريون متواضعي الدخل في إيصال تبرعاتهم إلى المحتاجين من أبناء الشعب الفلسطيني، في حين يبخل عليه بذلك الأثرياء العرب الذين تمتلء خزائن البنوك الغربية بإيداعاتهم”.

تفاني في خدمة الثقافة العربية

يفتخر إدوارد بدين بأصوله وثقافته العربية التي يجد انها ثقافة منفتحة ومتسامحة، ولن تغيّر الحملات المغرضة التي تشن ضدها اليوم هذه الحقيقة، لكنه لا يرى أن ذلك يحدث من تلقاء نفسه، بل بالعمل والإمتداد نحو الآخر.

فعمل منذ وجوده في سويسرا على تنظيم العديد من التظاهرات الثقافية أو شارك فيها، وأشرف على العديد من دورات تعليم اللغة العربية في العديد من الجامعات السويسرية من بازل إلى زيورخ، ومن برن إلى فريبورغ. وألقى دروسا حول الثقافة العربية والإسلامية أمام أقسام الشرطة ببازل وزيورخ.

ويشرف اليوم بمعهد الإستشراق التابع لجامعة زيورخ على تنظيم دورات متنوعة لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها كما يقيم دورات تحت الطلب حول الأوضاع الثقافية، والإتجاهات السياسية والفكرية المعاصرة في المنطقة العربية، ومن هذه الدورات ما تركّز على الشعر السياسي العربي الحديث، ومنها ما تناول قضايا المرأة ومنزلتها في الثقافة العربية والإسلامية.

ويحدو هذا المثقف الفلسطيني الأمل في أن “يفهم المسؤولون العرب يوما ما أن الثقافة العربية ومؤسساتها في الغرب في أمس الحاجة إلى دعمهم”. وهو لا يرى أن هذا العمل مجرد ترف ثقافي، بل يعتقد جازما بأنه “رد فعال على الجهات المستهدفة للأمة العربية في حاضرها ومستقبلها”.

سويس انفو- عبد الحفيظ العبدلي- زيورخ

ولد إدوارد بدين في يوليو 1944، بمدينة الناصرة بفلسطين، وهو متزوج وله ثلاث بنات. بدأ مشواره الدراسي بالمدرسة التبشيرية بالناصرة، ثم التحق بثانوية القديس يوسف لإستكمال دراسته الثانوية. وفي سنة 1963 التحق بجامعة القدس ودرس بها اللغة العربية والادب العربي، وكذلك اللغة والأدب الإنجليزي. حصل على الباكلوريوس في الآداب من جامعة القدس، وعلى الدكتوراه في العلوم الإسلامية من جامعة بازل في سويسرا.

مسيرته الوظيفية بدأت سنة 1967، حيث عمل مدرسا للغة الإنجليزية بالمدرسة المسيحية بالجليل وبمدرسة المهندسين بالناصرة، وعندما انتقل إلى سويسرا، اشتغل بتعليم اللغة العربية، وبتقديم دروس حول القوانين الإسلامية بجامعة بازل، ثم أستاذا محاضرا لتدريس اللغة العربية. ويشرف الآن الدكتور إدوارد بدين على تنظيم دورات مختلفة في مجال الحضارة العربية والإسلامية وفي مجال الادب العربي وقضايا الشرق الأوسط، وتنظم هذه الدورات بمعهد الدراسات الشرقية التابع لجامعة زيورخ.

ويعد هذا الفلسطيني اليوم مرجعا في قضايا العالم العربي، وناطقا غير رسمي بإسم القضية الفلسطينية، ويرأس جمعية خيرية لجمع تبرعات السويسريين والمقيمين في سويسرا لصالح اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في المخيمات في لبنان وسوريا وفي الداخل الفلسطيني.

إدوار بادين، ابن الناصرة، كان حاصلا على الجواز الإسرائيلي، واليوم يحمل الجواز السويسري، ويقيم ببازل منذ ما يزيد عن 35 سنة.

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية