في سويسرا… عالم بيئة يشمّ النباتات للكشف عن أمراضها
كان الاكتشاف الذي توصّل إليه تيد تورلينغز، والمتعلق بآلية دفاع نباتات الذرة الصفراء عن نفسها ضد الآفات الحشرية، موضع شكّ في البداية، من قبل المجتمع العلمي. والآن، وبعد مرور أكثر من 30 عاماً، حصل تورلينغز على جائزة علمية سويسرية مرموقة على اكتشافه. يفتح هذا الاكتشاف آفاقاً جديدة أمام قطاع الزراعة من خلال الحد من استخدام المبيدات الحشرية. كان لنا لقاء معه في مختبره.
يقترب تيد تورلينغز بأنفه من فتحة جرة زجاجية صغيرة. في داخلها، توجد شتلة ذرة صفراء بأوراق تالفة ويرقة ذات لون داكن. “هذه الرائحة نمطية” كما يقول؛ وهي تشبه رائحة العشب الطازج والقش التي تطلقها نباتات الذرة الصفراء عندما تتعرض لهجوم من قِبَل الآفات.
على مر السنين، لم يقتصر دور تورلينغز كعالم بيئة على التعرف بواسطة شم الرائحة، على المركّبات المتطايرة التي يطلقها النبات؛ بل أصبح أحد أبرز الخبراء في العالم في الإلمام بتفاعلات النباتات مع الحشرات، والتحكم البيولوجي في الكائنات الحية الضارة، عبر استخدام العوامل الحيوية المنافسة بدلاً من استخدام المواد الكيميائية الضارة. عندما التقينا به في مختبره في جامعة نوشاتيل في غرب سويسرا، كان تيد تورلينغز يقوم بفحص بعض الأجهزة العلمية المستخدمة في مجموعة أبحاثه.
كان هناك ست شتلات من الذرة الصفراء، موضوعة داخل نواقيس زجاجية متصلة فيما بينها بأنابيب بيضاء من مادة التفلون. وكان هناك جهاز يجمع جزيئات هوائية من الروائح التي تطلقها هذه النباتات. “هذه المواد تجذب العدو الطبيعي لليرقة. بالنسبة للنبات، هذا شكل من أشكال الدفاع ضد هذا العدو” كما تشرح كاثرين ألترمات، التي تقوم بمراقبة التجارب في المختبر بالتعاون مع طالبات أخريات وطلاب آخرين يقومون.ن بأبحاث الدكتوراه والماجستير، تحت إشراف أستاذهم تيد تورلينغز، الذي يبلغ من العمر 64 عاماً، ويقترب من سن التقاعد الرسمي.
رغم تقدمه في العمر، لا تراود تيد تورلينغز فكرة التوقف عن العمل. إنه على العكس من ذلك، يستعد لمرحلة جديدة في حياته المهنية؛ حيث تحدوه الرغبة في أن يضع أخيراً بحثه، حول آلية دفاع نباتات الذرة الصفراء، قيد التطبيق، وأن يطوّر حلّاً فعّالاً وغير مكلف ضد الآفات الحشرية، التي ما تزال تُدمّر ما يصل إلى أربعين في المئة من المحاصيل الزراعية، في جميع أنحاء العالم.رابط خارجي
ولد في هولندا وبدأ مسيرته البحثية في الولايات المتحدة وجامعة فلوريدا ووزارة الزراعة الأمريكية. منذ عام 1993، عمل تيد تورلينغز في سويسرا، أولاً في المعهد التقني الفدرالي العالي بزيورخ، ومنذ عام 1996، في جامعة نوشاتيل. ابتداءً من عام 2014، ترأس مركز الكفاءة في علم البيئة الكيميائية بجامعة نوشاتيل. في عام 2023، تم تعيينه رئيسًا للجمعية الدولية للبيئة الكيميائية.
وأوضح قائلا: “منذ فترة طويلة اقتنعت بأنه لا يكفي أن تنتج عن البحث منشورات علمية، بل يجب أن يساهم في إيجاد حلول لمشكلات معقّدة”.
عندما يأتي عدو العدو للمساعدة
يعمل تيد تورلينغز حالياً على جهاز استشعار للرائحة، يمكنه اكتشاف الجزيئات المتطايرة التي تنتجها نباتات الذرة الصفراء المصابة باليرقة، في الوقت الفوري لهذه الإصابة. تلك الجزيئات تجذب الدبابير الطفيلية التي تضع بيضها داخل جسم اليرقة. عندما تنمو، تأكل يرقات الدبابير اليرقة من الداخل، مما يؤدي إلى قتلها. “يدافع النبات عن نفسه عن طريق استدعاء عدو لعدوه من أجل إنقاذه”، بهذه الكلمات يشرح تورلينغز ما توصّل إليه من بحوث.
ويتابع شرحه مشيرا إلى أن فكرته تقوم على تثبيت الجهاز على معدات زراعية أو روبوت يتحرك في حقول المحاصيل – لتنبيه القيّمين والقيمات على المزارع إلى ما يحدث في محاصيلهم.هن، قبل أن تصبح نتائج الضرر الناجم عن الآفات مرئية.
ولكن حجم جهاز الاستشعار النموذجي الذي طوره ما زال كبيراً، وتكلفته عالية – تصل إلى 300 ألف فرنك سويسري على الأقل – مما يعيق إمكانية استخدامه على نطاق واسع في البلدان النامية. لذلك، هناك شركة في تسوغ، الواقعة وسط سويسرا تعمل فعليّاً على صناعة نموذج أصغر وأرخص.
دودة الصقيع ضد اليرقة
النيماتود هي ديدان صغيرة جداً تعيش عادة في التربة. ويمكن أن تكون هذه الديدان جزءاً من ترسانة الدفاع لدى نباتات الذرة الصفراء، حيث تُجذب إليها بواسطة المواد التي تفرزها الجذور. وعلى غرار الدبابير، يمكن للنيماتود مهاجمة وقتل اليرقات التي تتغذى على الأوراق. وقد قام فريق تيد تورلينغز بتطوير هلام يحتوي على النيماتود، يمكن استخدامه ووضعه على المنطقة التي تبدأ فيها اليرقة بالهجوم على نباتات الذرة الصفراء.
في أوروبا، كما في الولايات المتحدة، أو آسيا، يمكن نظرياً استخدام الهلام مباشرة بواسطة الروبوت الذي “رصد رائحة” وجود آفة ما. أما في أفريقيا، حيث من غير المرجح أن تكون التعاونيات الزراعية قادرة على تحمل تكلفة الروبوتات، فيمكن وضع الهلام يدوياً باستخدام “حقن كبيرة”. وقد أظهرت التجارب في رواندارابط خارجي أن هذه الطريقة لمكافحة الآفات يمكن أن تكون فعالة، على غرار فعالية استخدام المبيدات، وفقاً لتورلينغز.
كما يمكن أن يساعد هذا الهلام في مكافحة ديدان الجيش الساقطة، وهي نوع من فصائل الفراشات الأصلية التي تنمو في أمريكا الجنوبية والشمالية. فمنذ اكتشاف هذه الآفة لأول مرة في القارة الأفريقية في عام 2016، انتشرت على صعيد واسع، في منطقة جنوب الصحراء الكبرى، واجتاحت كل الحقول الزراعية تقريباً، متسببة في خسائر تقدّر بمليارات الدولارات.رابط خارجي
الاكتشاف، التشكيك، وأخيراً الإقرار به
تيد تورلينغز هو من مواليد هولندا، ونشأ متحمساً دائماً للطبيعة. في أوقات فراغه، كان يحب مراقبة الطيور، بينما كان يركز في المختبر على دراسة النباتات والحشرات. وخلال دراسته في علم الأحياء، تعرّف من خلال أساتذته على مفهوم التحكم البيولوجي. ويقوم هذا النهج على اللجوء إلى العوامل الحيوية لمكافحة الكائنات الضارة، مثل استخدام الكائنات الطبيعية المعارضة للآفات، مستخدماً في ذلك العلاقات التنافسية بين هذه الكائنات للتعامل مع تواجد الآفات، والحشرات الضارة بالنباتات والبشر.
في سن الخامسة والعشرين، انتقل تيد تورلينغز إلى فلوريدا للعمل في وزارة الزراعة الأمريكية. وخلال أبحاثهاستعدادا لنيل شهادة الدكتوراه، توصّل إلى أبرز اكتشافاته في مسيرته العلمية، وذلك أثناء بحوثه عن كيفية عثور الدبابير الطفيلية على نباتات الذرة الصفراء التي تعاني من هجوم اليرقات.
ما يجذب الدبور ليس رائحة اليرقة أو فضلاتها، كما كان الاعتقاد سائداً، وإنما رائحة يفرزها النبات عندما يرصد مادة موجودة في لعاب اليرقة. كان هذا الاكتشاف مثيراً، كما يستذكر تورلينغز، لأنه بيّن أن النبات قادر على التعرف على الكائن الذي يتغذى منه.
كان الباحث الشاب أول من حدّد الهوية الكيميائية الدقيقة للمركبات المتطايرة التي تصدرها نباتات الذرة الصفراء. ولاحقاً، شارك في تحديد المركّب الرئيسي في لعاب اليرقة، والذي أطلق عليه اسم “فوليسيتين”. وتم نشررابط خارجي الاكتشاف في مجلة العلوم عام 1990، ولكن صوابيته العلمية واجهت في البداية موجة من الشكوك من قِبَل بعض العالمات الزميلات والعلماء الزملاء الذين واللواتي كانوا يبحثون آنذاك في مسألة تفاعلات النباتات مع الحشرات.
ريتشارد كاربان، عالم حشرات في جامعة كاليفورنيا، يتذكر جيداً ردود فعل الباحثات الآخريات والباحثين الآخرين في هذا المجال، على هذا الاكتشاف. وهو لم يكن متفاجئاً من موجة الشكوك التي أثيرت آنذاك تجاه النتائج الجديدة التي توصّل إليها تيد تورلينغز. “بوجه عام، غالباً ما ت.يكون العالمات والعلماء متحفظّين.ات إزاء الأفكار الجديدة التي تتعارض مع معتقداتهم ومعتقداتهن الراسخة منذ فترة طويلة”، على حد تعبيره في بريد إلكتروني أرسله إلى موقع سويس إنفو (SWI swissinfo.ch).
وخلال السنوات التالية، توصّلت مجموعات بحث أخرىرابط خارجي من خلال تجاربها في المختبر إلى نتائج مماثلة لتلك التي توصّل إليها تيد تورلينغز. بالنسبة لهذا الأخير كان الشعور بالرضا والارتياح لا يوصف. ولاحقاً اكتشف.ت الباحثون.ات أيضاً أن المركّبات المتطايرة يتم استشعارها أيضاً من قبل النباتات المجاورة، التي تستعد بدورها لهجوم من قِبَل اليرقة.
ويشير ريتشارد كاربان قائلاً: “بحث تورلينغز كان له تأثيره في صقل معارفنا حول كيفية دفاع النباتات عن نفسها ضد الحشرات الآكلة لها، وإمكانية استخدام هذه الدفاعات لزيادة إنتاج المحاصيل”.
وقد قُدّر لتيد تورلينغز الانتظار حوالي 30 عاماً قبل أن يحظى بالإقرار الكامل بما اكتشفه، وهو إقرار حصل عليه على الأقل في سويسرا حيث كان يعمل منذ ذلك الحين. في شهر أكتوبر من 2023، منحته مؤسسة مارسيل بينواست جائزتهارابط خارجي الأسمى، والتي تُمنح سنوياً للباحثات المقيمات والباحثين المقيمين الذين واللواتي كانت لهم.لهن إسهامات كبيرة لصالح حياة البشر.
حاز تيد تورلينغز على ما يسمى بـ”جائزة نوبل السويسرية” في مجال العلوم لأن بحثه في مجال مكافحة الآفات الحيوية، “سلط الضوء على ظواهر حيوية معقدة” وكان له “تأثير على مستوى عالمي في ميدان العلوم البيئية”، كما ذكرت المؤسسة.
هذه الجائزة هي بمثابة حافز لتيد تورلينغز للمضي قُدماً في عمله أكثر فأكثر. “إن عملي لم ينتهِ بعد”، كما يقول.
تحرير: صابرينا فايس
ترجمة: جيلان ندا
مراجعة: عبد الحفيظ العبدلي
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.