مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

أمريكا في العراق وسقوط الأقنعة

آثار التعذيب كما بدت على جسم أحد المعتقلين السابقين في أحد السجون العراقية (الصورة وزعها الحزب الإسلامي العراقي يوم 17 نوفمبر على وكالات الأنباء الدولية) Keystone

تتوالى الفضائح الأخلاقية والقانونية في العراق بدءا بالتعذيب ومرورا باستعمال الفوسفور الأبيض ضد المدنيين ووصولا إلى تقرير الدايلي ميرور حول تفكير بوش في قصف محطة الجزيرة الفضائية بالدوحة.

من جهة أخرى، تتوالى فضائح عراقية من نوع خاص جدا في طبيعتها وفي دلالاتها السياسية والأخلاقية والمستقبلية.

تتوالى الفضائح الأخلاقية والقانونية في العراق على نحو يبعث على الحزن الشديد.

فبعد فضيحة التعذيب والمعاملة اللا إنسانية للمعتقلين العراقيين في سجن أبو غريب، رفع الغطاء عن فضيحة أخرى تتعلق باستخدام القوات الأمريكية للفوسفور الأبيض ضد المدنيين العراقيين في معارك الفلوجة، وهي مادة تسبب حروقا شديدة للجسد البشرى، وتخضع للحظر الدولي وفقا لمعاهدة استخدام الأسلحة التقليدية.

وإلى جانب فضائح الأمريكيين، تتوالى أيضا فضائح عراقية من نوع خاص جدا في طبيعتها وفي دلالاتها السياسية والأخلاقية والمستقبلية.

تفوق حكومة الجعفري

فحكومة إبراهيم الجعفري، التي تعترف بالفضل للأمريكيين في تحرير العراق من قبضة نظام الرئيس السابق صدام الوحشية، لم تأل جهدا في التفوق على تلك الأساليب الوحشية التي كانت سببا في إدانة النظام البعثي السابق، ومبررا أمريكيا وبريطانيا لغزو العراق.

وتأتي حادثة اكتشاف 167 معتقلا عراقيا على يد قوات الاحتلال الأمريكية نفسها في قبو في مقر المخابرات العراقية بحي الجادرية، وقد تعرضوا للتعذيب الشديد وسوء التغذية والإخفاء عن الأهل والأقارب، ليثير الكثير من التساؤلات حول ماهية الحكم الجديد الذي فرض نفسه على العراق بمساعدة أمريكية مباشرة، وموقعه من حماية حقوق الإنسان العراقي واحترام كرامته والحفاظ على حياته.

وهكذا يبدو العنوان المشترك بين قوة الاحتلال والحكومة الخاضعة له هو إهانة المواطن العراقي، وعدم احترام حياته، وقبول مبدأ التعذيب في التعامل مع المعتقلين العراقيين تحت حجج واهية تتعلق بمزاعم مواجهة الإرهابيين ومناصريهم، وهو التفسير الواهي الذي اعتمد عليه وزير الداخلية العراقي، حين برر وجود هؤلاء في قبو أحد مقرات وزارته يعانون سوء الحال.

معتقلون بالآلاف

وحسب تقرير للأمم المتحدة نُـشر في شهر نوفمبر الجاري، فقد بلغ عدد المعتقلين 230 ألفا و394 معتقلا، منهم 11 ألف و559 تحت قبضة القوات المتعددة الجنسيات، وهو عدد هائل بكل المقاييس.

وإذا كان كل هؤلاء من العناصر الإرهابية، حسب المزاعم الأمريكية ومزاعم حكومة إبراهيم الجعفري، فلماذا لم تتوقف العمليات العسكرية التي تقوم بها جماعات مختلفة بين قومية وبعثية وإسلامية ذات اتصال بتنظيم القاعدة؟

والواضح إذن أن الغالبية العظمى من هؤلاء المعتقلين، هم من الأبرياء ضحايا السياسة الطائفية التي تنتهجها حكومة إبراهيم الجعفري، والتي تتسبب في إغراق البلاد في أتون الصراع الأهلي على أسس طائفية ومذهبية، وعمليات تصفية الحسابات المنهجية التي تلتزمها قوات بدر الشيعية، التي تتدثر بغطاء إيراني وتأييد ضمني من الحكومة القائمة.

ونتيجة كهذه للحرب الظالمة وغير المبررة قانونيا، تعنى أن الاحتلال قد نجح في شيء واحد وحسب، وهو إبدال القائمين بالتعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان من نخبة بعثية صدامية إلى نخبة أخرى ذات هوى شيعي، ترى أن واجبها الأول هو تفريغ العراق من أهله السُـنة، ولاسيما الكوادر منهم في كل مجال.

ومثل هذا الهوى الطائفي الموغل في الانتقام، يضع مستقبل البلاد كله في دائرة مظلمة. وحتى لو بقي الأمريكيون سنوات طويلة أخرى تحت مبرر حماية العراق من حرب أهلية، ودون أن تتغير هذه العقلية العراقية السوداء، فلن يكون هناك أي أمل في خروج العراق من تلك الدائرة، بل ربما ازدادت ظلاما وهلاكاعماهي عليه الآن.

عبء على الذات وعلى الإنسانية

وكما فقدت الحكومة العراقية الحالية مصداقيتها في الدفاع عن المواطنين العراقيين وتأمين حاجاتهم الأمنية والصحية والاجتماعية والإنسانية، وتحولت إلى كابوس يتطلعون إلى إزاحته، يتأكد كل يوم أن الولايات المتحدة في ظل إدارتها اليمينية قد تحولت إلى عبء أخلاقي كبير على نفسها وعلى العالم بأسره.

وهو ما يتضح في ذلك الحوار العقيم والمتجدد بين أركان الإدارة الأمريكية حول استخدام التعذيب في الحصول على معلومات من مشتبه بهم ذوى حيثية، وهو حوار يمتد إلى فترة ماضية طويلة، ولكنه انفجر عدة مرات كما حدث إبان فضح انتهاكات سجن أبو غريب، والتي تورط فيها عسكريون، وعلى رأسهم دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الذي أصدر أوامره صريحة باعتماد أساليب عنيفة ضد المعتقلين العراقيين، وقانونيون يعملون في الإدارة سوغوا تهرب بلادهم من الالتزامات القانونية الدولية التي تحرِّم التعذيب، كاتفاقيات جنيف التي تنظم الحرب وتحرم انتهاكات حقوق الإنسان، لاسيما ضد المدنيين، وأيضا معاهدة الأمم المتحدة ضد التعذيب لعام 1985 التي صدقت عليها واشنطن بالفعل.

وكذلك تورط سياسيون كبار، أمثال نائب الرئيس ديك تشيني الذي برر منهجيات التعذيب، وقاد جهودا منظمة لإقرار ما يراه حق بلاده في السير في الجانب المظلم، إذا أرادت أن تحقق أمنها.

التعذيب حين يكون رقيقا

هذه المشاركات متعددة المستويات، مؤسسيا وفرديا في تبرير التعذيب وإضفاء صفة قانونية وهمية عليه، باعتباره وسيلة لحماية الأمن القومي الأمريكي عبر الحصول على معلومات بأي شكل قد تمنع عمليات إرهابية جديدة، تقدم الجانب المظلم الذي تحولت إليه الولايات المتحدة بعد عمليات 11 سبتمبر، وهو ببساطة يلغي النظام القانوني الدولي الذي ينظم الحقوق بين الأطراف المتعارضة في اللحظات المتأرجحة بين السلم والحرب، وفي أثناء الحرب نفسها.

ولما كان القانون الدولي يقوم على مبادئ استخلصتها البشرية من رحلتها الطويلة من الحروب والصراعات التي أكلت الأخضر واليابس، وتدعو إلى احترام الكرامة الإنسانية، فبالتالي، فإن أي تجاوز لهذه المنظومة القانونية والمبدئية، يعني عودة إلى عصر همجي بكل امتياز، وتفرخ بالتالي، الكثير من المتناقضات الصارخة، مثل تلك الواقعة التي أخرجت فيها القوات الأمريكية في العراق 167 معتقلا من قبو المخابرات في الجادرية، ولعبت بذلك دور المحرر ذو المبدأ القيم، في الوقت الذي تستخدم فيه القوة المفرطة في أي مواجهة مع عناصر من المقاومة العراقية أو الجماعات الإسلامية العنيفة، والتي تؤدي إلى تشريد الآلاف من الأسر العراقية، ومقتل المئات من العراقيين الأبرياء.

ثم، وهذا هو الأكثر قتامة، تستخدم مع الذين يقعون بين أيديها أبشع أساليب التعذيب التي أوصى بها خبراء الاستخبارات الأمريكية تحت مسميات تبدو رقيقة ولطيفة، ولكنها تحمل الشر كله والعذاب كله، من قبيل تقنيات الاستجواب المعززة، وتقنيات الاستجواب العدوانية، والاستجواب القسري، وهي مفاهيم تعني في الأول والأخير استخدام التعذيب بكل أشكاله، النفسية والبدنية ضد المعتقلين، لاسيما من يشتبه في كونه يملك معلومات مفيدة، بل أن التفسير الذي اعتمده وزير الدفاع رامسفيلد، وهو من الصقور المؤيدين لمنهجيات التعذيب بلا حياء، هو أن من لقبوا بـ “المقاتلين الأعداء” لا ينطبق عليهم الاتفاقيات الدولية الخاصة بالحرب، ومباح فيهم كل أشكال العدوانية والقسرية.

إن تطويع القوانين الدولية للرغبات الانتقامية والشخصية يؤكد الانزلاق إلى مستنقع لا أخلاقي بلا نهاية، ويعيد الأمور إلى عهد من البطش وغطرسة القوة، وهو ما يجد معارضة من بعض الليبراليين الأمريكيين، وأبرزهم فى هذا المجال، السيناتور جون ماكين، الذي قدم مشروع قانون أمريكي يحظر استخدام الأساليب المهينة والتي تنطوي على تعذيب وإساءة معاملة السجناء، معتبرا أن القانون يدافع عن مبدأ إنساني بالدرجة الأولى، وتأكيد للواجبات الأمريكية الأخلاقية عالميا، بحيث يحكم السلوك الأمريكي، في الحرب كما في السلم، الالتزام بالواجبات الإنسانية قبل أي شيء آخر.

وقد نال القانون تأييد 90 من الشيوخ وعارضه فقط 9. وتجري في الكواليس ضغوط شديدة يقودها تشيني، نائب الرئيس بوش لتعديل القانون ووضع استثناءات عليه تقضي على فاعليته.

وهكذا، فبدلا من إصلاح الأخطاء الجسيمة التي ترتكبها الإدارة الأمريكية في حق العراقيين وفي حق نفسها وفي العالم معا، تعمد على تحويل الأخطاء والانتهاكات إلى حق قانوني، وإذا ما حدث ذلك، فسوف تسقط ورقة التوت الأمريكية إلى الأبد، وسيقدم دليلا آخر على تهاوي المسؤولية الأمريكية الأخلاقية تجاه نفسها وتجاه العالم بأسِره.

د. حسن أبوطالب – القاهرة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية