مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

إيجابيات “الإجماع” ومخاطر “الإنفراد”

الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة يخطب في اجتماع انتخابي في مستغانم غرب الجزائر (تاريخ الصورة: 21 مارس 2004) Keystone

بعد الانتخابات الرئاسية في شهر أبريل 2004، بدا واضحا أن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة أضحى الرجل الأقوى في البلاد.

غير أن حزب جبهة التحرير الوطني لم يكن في تلك الفترة ذلك الحزب الذي يمكن أن يحصل منه بوتفليقة على كل شيء..

بأمر من الرئيس الجزائري، بدأ وزير الخارجية عبد العزيز بلخادم، منذ حوالي عام، حملة داخل حزب جبهة التحرير الوطني تهدف إلى سحب البساط من منافس بوتفليقة على رئاسة الجمهورية، علي بن فليس، رئيس الحكومة الأسبق.

في تلك الفترة، أي قبل الانتخابات بحوالي ثمانية أشهر، تفطن الرئيس الجزائري إلى مسألة جوهرية، هي أن غالبية أعضاء الحزب يحبذون أساليب النضال في الكواليس، وعقد الصفقات السياسية المربحة، بالإضافة إلى الوعود المادية الواضحة.

أما علي بن فليس، فظن أن الجزائر قد تغيرت وتغير معها حزب جبهة التحرير الوطني، وهو ما لا يفكر فيه عبد العزيز بلخادم الذي شن حملة ضخمة ضد علي بن فليس، سميت بـ”الحركة التصحيحية”، ظاهرها أن علي بن فليس “خائن” للرئيس وأنه لا يريد إلا مصلحته الخاصة، وباطنها أن من يقف مع الرئيس الجزائري داخل الحزب يشارك بطريقة أو بأخرى في حركية الدولة، بالدعم والدعم المقابل..

تقول المحللة السياسية غنية عكازي لسويس إنفو: “هذا هو دور حزب جبهة التحرير الوطني منذ الاستقلال، ولم تتغير هذه العقيدة. فالغالبية داخله تعتقد أن على الجبهة دعم نظام الحكم، وليس العمل في المعارضة كما أجبروا على ذلك في تسعينات القرن الماضي عندما فضل الرئيس الأسبق ليامين زروال حزب التجمع الوطني الديمقراطي، الذي يتزعمه في الماضي والحاضر رئيس الحكومة الحالي أحمد أويحي”.

من جهته يرى عبد الحميد سي عفيف، أحد أنشط وجوه الحركة التصحيحية التي ساندت بوتفليقة وعارضت علي بن فليس، أن على جبهة التحرير “الوقوف دون قيد أو شرط مع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة”.

ثقة الجبهة في الرئيس

ويقول سي عفيف لسويس إنفو: “لا يمكننا إلا مساندة رئيس الجمهورية الذي يكن كل الاحترام لحزب جبهة التحرير الوطني. ونحن نبادله كل الاحترام لأنه عين عبد العزيز بلخادم مشرفا على المؤتمر الثامن الجامع. ونحن نرى أيضا أن عبد العزيز بلخادم رجل له من الحكمة وسداد الرأي ما يعطي له الحق لرئاسة الأمانة العامة للحزب”.

وعندما سألناه: “ماذا لو اتخذ عبد العزيز بوتفليقة قرارا يخالف المصلحة الوطنية، هل ستعارضه جبهة التحرير الوطني؟”، أجاب السيد سي عفيف بكل ثقة: “لن يتخذ رئيس الجمهورية قرارا يخالف المصلحة الوطنية”.

اعتمادا على تصور وزير الخارجية عبد العزيز بلخادم وأنصار عبد الحميد سي عفيف، تمكن عبد العزيز بوتفليقة من الظفر بحزب جبهة التحرير الوطني، ليس كحزب داعم للحكومة دون قيد أو شرط، بل بالشكل الذي يريده بوتفليقة من حزب سياسي تابع للسلطة ولرغبة الرئيس، تكون الكلمة الأخيرة فيه لـ “الحرس القديم”.

وهكذا كانت نتيجة المؤتمر الثامن الجامع، (الذي انعقد في الجزائر العاصمة من 30 يناير إلى 2 فبراير 2005)، حيث عُين عبد العزيز بلخادم أمينا عاما، فيما اختير بوعلام بالسايح ناطقا رسميا له، في إشارة واضحة إلى أن الرئيس الجزائري لا يمكنه العمل في غير هذه الأجواء.

سياسيا لا يمكن لوم جبهة التحرير على خياراتها، فهي حزب حكم منفردا لأكثر من ربع قرن وأضحت عقيدته تتلخص اليوم في دعم السلطة واختيار أسهل الطرق للوصول إليها. وليس لأحد أن يجبرها على اختيار طريق المعارضة الشاق، خاصة مع رئيس جمهورية يريد من مؤسسات الدولة وأحزابها أن لا تضيع وقتها في معارضة برامجه السياسية الاقتصادية، لأنه لن يغيرها “مهما علا الضجيج”.

“خطوط حمر”

في المقابل، كثر الحديث عن حدود دعم جبهة التحرير الوطني لكل تصورات الرئيس، أو بمعنى آخر، هل يمكن فرض سياسة القبول التام التي تنتهجها الجبهة على باقي الجزائريين بمختلف أطيافهم واتجاهاتهم وأحزابهم؟ وهل يمكن للجزائر أن تعيش في عام 2005 وأن تتبع في نفس الوقت سياسات 1978؟

عن هذين التساؤلين أجابت المحللة السياسية غنية عكازي في تصريحاتها لـسويس إنفو: “هذه خطوط حمر لا يمكن تجاوزها، لأنها من جهة مكاسب ضخمة سالت من أجلها دماء آلاف الجزائريين، ومن جهة أخرى، لا يمكننا أن نعرض أنفسنا لانتقادات واشنطن والاتحاد الأوربي التي تراقب كل مساس بالحريات العامة وحرية التعبير بشكل خاص، رغم أن هناك من يحاول التقرب من الرئيس عبر إظهار مقته للحريات السياسية كأن بوتفليقة يريد فعلا القضاء عليها”.

ويؤكد سي عفيف هذا الاتجاه رغم أنه يؤيد بشكل مطلق عبد العزيز بوتفليقة، إذ يقول: “أبدا لن يتم التعدي على حرية الإعلام والحريات السياسية الأخرى، فهذا الأمر ليس في برنامج حزب جبهة التحرير الوطني، ولا في برنامج رئيس الجمهورية”.

في مثل هذا الجو المتفائل، كيف يرد سي عفيف على حقيقة أن جبهة التحرير الوطني، وقعت صكا على بياض للرئيس بوتفليقة، دعمت من خلاله كل مشاريعه الاقتصادية والسياسية، بدءا بخصخصة كل المؤسسات العمومية ووصولا إلى مسألة العفو الشامل التي تقضي بالعفو عن كل من تسبب من قريب أو من بعيد في مآسي الشعب الجزائري منذ الاستقلال وإلى غاية الآن؟

يقول سي عفيف: “نحن نؤيد مشاريع رئيس الجمهورية، وهي كلها تخدم الصالح العام، وهذه هي سياسة حزب جبهة التحرير الوطني الذي يحب بوتفليقة، بما أن بوتفليقة يحبه”.

أما السيدة غنية عكازي فتعلق على هذا الموقف قائلة: “غير معقول، كيف يمكن لهم دعم مشروع لا يعرفون تفاصيله، أؤكد لكم أنها حالة هستيريا جماعية انتابت الطبقة السياسية ككل، كلهم يدعمون مشروع العفو الشامل لمجرد أن بوتفليقة طرحه، ويا ليته أفصح عما في قلبه، إنهم يدعمون المشروع لمجرد أنه صادر من الرئيس”.

“غياب بوتفليقة سيؤدي إلى كارثة”

وعندما أعربنا عن الاعتقاد أنه “لم يحدث أن تجمع السياسيون الجزائريون خلف رجل واحد مثل تجمعهم الآن خلف بوتفليقة”، وبأنه “الآن صاحب السياسات كلها، لكن ليس له نائب ولا أحد من السياسيين يمكنه تعويضه في حالة غيابه؟”، أجابت السيدة غنية عكازي: “بكل حسرة أقول لك لا أحد الآن يهتم بهذا الاحتمال، فغياب بوتفليقة بسبب الوفاة أو المرض، سيؤدي إلى كارثة لأن كل شيء الآن مرتبط بشخصه”.

على صعيد آخر، زاد بوتفليقة من ربط جبهة التحرير بسياساته لدرجة أن ممثله الشخصي، وزير الخارجية عبد العزيز بلخادم، ألغى اللجنة المركزية التي اشتهر بها الحزب وعوضها بـ “مجلس وطني” الذي تقرر أن يضم خمس مائة عضو.

كما تم تعيين هيئة تنفيذية تضم مائة وعشرين عضوا، فيما تأجل تعيين الأمانة التنفيذية إلى غاية اجتماع أعضاء المجلس الوطني والهيئة التنفيذية في لقاء قادم، فيما أعلن بلخادم أمينا عاما للحزب.

ومع أنه ليس هناك شك في أن بوتفليقة قد روض -عبر بلخادم- أغلب عناصر الحزب، لأنهما أعلم بشعاب ما يُعرف بالحزب العتيد، إلا أن بوتفليقة لم يكن – في الواقع – في حاجة إلى سياسات “ستالينية” حتى يجتمع الجبهويون خلفه، ربما لغياب شخصية تمتلك خطابا سياسيا حقيقيا.

من جهة أخرى، لو نظرنا إلى انعكاس سياسات الرئيس على عامة الشعب، فإنها ملحوظة دون أدنى شك، مع سمة ظاهرة واضحة يعتبرها البعض مثل الاقتصادي الجزائري عمر أميني، أمرا خارقا للعادة.

يقول عمر أميني لسويس إنفو: “لا شك أن بوتفليقة سيدفع الاستثمارات الاقتصادية إلى الأمام. ويتوقع أن تظهر آثار الرخاء على الجزائريين، لكن ليس أغلب الجزائريين، فتقسيم الثروة لم يناقشه لا برنامج الرئيس ولا غيره من التيارات السياسية وأعضاء الحكومة. أنا متفائل بسير الاقتصاد حسب خطة بوتفليقة، لكن المستفيدة منه لن تكون سوى قلة من المحظوظين”.

أسئلة ربما يحرم طرحها..

بعد عشرة أشهر من الانتخابات الرئاسية التي فاز بها بوتفليقة، هاهو الآن يعيش حالة من الانفراد السياسي تتلاءم إلى حد بعيد مع رؤيته للحكم والمعارضة وموازين القوى التي يجب أن تكون قائمة بين الرئاسة والجيش.

غير أن الفارق الهام بين رؤيته الشمولية، التي يحبذها كثير من الجزائريين (الذين يفضلون تطبيق الأوامر بدل مناقشتها)، وبين حقيقة معيشة الجزائريين مختلف بعض الشيء.

فليس باديا أن بوتفليقة يهتم بغضب القرى النائية التي لم تجد غازا طبيعيا تتدفأ به بعد موجة البرد القارص التي اجتاحت البلاد مؤخرا، لأن السياسة الشمولية تهتم بنتائج الاقتصاد الكلي التي تشير إلى تقدم مستمر في تزويد القرى بالغاز الطبيعي. لذلم فلا معنى في هذه الحالة لشكوى مواطنين من أن قراهم ستتزود بالغاز الطبيعي بعد خمسة أعوام، لأن قراهم ستتزود به في النهاية. أما كيف قضى تلميذ في الصف السادس الابتدائي سنواته الخمس الماضية، فالنظرة الشمولية لا توليها اهتماما بكل معنى الكلمة.

لا يمكن وصف بوتفليقة بالقسوة في ممارسة الحكم، لكن تصوره السياسي يؤدي في نظر كثيرين إلى نتائج قاسية تعتبرها جبهة التحرير “ضرورة وطنية” لابد منها، غير أنها كانت في عهد الاشتراكية التي حكم فيها الرئيس الراحل هواري بومدين (1965-1978) رافدا مهما للتطرف السياسي والديني على حد سواء، بل إن حزب جبهة التحرير الوطني كان من ضحاياه في تسعينات القرن الماضي.

في موفى التسعينات، علق بوتفليقة على زمن الاشتراكية الذي عرفته الجزائر في سبعينات القرن الماضي، (والذي كان فيه بوتفليقة وزيرا للخارجية)، قائلا: “لقد أردنا فرض النعيم على الشعب الجزائري ولم نوفق”. لذلك يطرح كثيرون السؤال التالي: “ماذا يريد أن يفرض بوتفليقة على الشعب الجزائري الآن؟”.

قبل الإجابة على هذا السؤال، هناك من يحرم طرحه من الأساس، وهناك من يرى أنه لا جدوى من طرحه، لأن هناك من يفكر مكان الآخر، بل وقبل الإجابة على السؤال حول نوايا بوتفليقة، لعله من الضروري التساؤل: “هل تغير الشعب الجزائري فعلا؟”، أو بكلمة أخرى: “هل توجد بالفعل طبقة سياسية ومجتمع مدني؟” في جزائر اليوم؟.

الجواب عن هذه الأسئلة الخطيرة قد يكون مدويا، إذ ربما يعرف بوتفليقة الجواب قبل غيره، بدليل أنه أعاد عقارب الساعة “حسبما يظهر إلى الوراء”، وهو يعيش الآن الزمن الذي يحب في زمن آخر غير زمان معارضيه!؟…

هيثم رباني – الجزائر

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية