The Swiss voice in the world since 1935

عدسات نسائية سويسرية تكشف إرث الاستعمار في قلب أفريقيا

كيفين وفورتون
فورتون مبتيونو وكيفين أوسول، بطلتَا الفيلم الوثائقي "كيفين وفورتون"

 
 
شهدت المسابقة الوطنية لمهرجان "رؤى من الواقع" هذا العام حضورًا لافتًا لثلاثة أفلام وثائقيّة سويسريّة تجري أحداثها في أفريقيا. بأساليب سرديّة متنوّعة ونبض فنيّ حيّ، تعالج هذه الأعمال مسألة ما بعد الاستعمار الأوروبي في القارّة الإفريقيّة، بما في ذلك دور سويسرا غير المباشر عبر شبكات اقتصادية وثقافية، وتسلّط الضوء على الامتدادات المعاصرة لهذا الإرث العالق في الذاكرة الجماعيّة، وفي ملامح السينما السويسريّة اليوم.

يُعدّ مهرجان “رؤى من الواقع”  (Visions du Réel) أحد أبرز المهرجانات الوثائقيّة العالميّة، وقد بلغ ذروته هذا العام بعرض 154 فيلمًا من 57 دولة، وهو أعلى رقم يسجّله في تاريخه. وتستقبل المسابقتان الرئيسيتان في المهرجان (واحدة للأفلام الوثائقية الطويلة، وأخرى للأفلام القصيرة والمتوسطة) الأعمال الجديدة من مختلف أنحاء العالم، مما يجذب اهتمام الجمهور الدوليّ بشكل رئيسي.

وفي ظلّ هذا الزخم العالميّ، تغيب المسابقة المُخَّصصة للأفلام السويسريّة أحيانًا عن دائرة الضوء، إلاّ أنّها تظلُّ تقدم نافذة ثريّة على المشهد الوثائقيّ المحليّ. وقد برز في دورة هذا العام، حضور لافت لثلاثة أفلام بتوقيع ثلاث مخرجات سويسريّات، وجدن إلهامهن في أفريقيا، حيث اتجهت عدساتهنّ لاستكشاف موضوعات متّصلة بها.

كرة القدم والصداقة 

تغوص سارة إمسند، في فيلمها ”كيفين وفورتون” (Kevine et Fortune)، في استكشاف عاطفيّ لعلاقة الصداقة بين شابتين من الكاميرون، تجمعهما أحلام مشتركة بالسفر إلى الخارج لتحقيق طموحهما في أن تصيرا لاعبتين محترفتين في كرة القدم. أمّا فيلم ”الاندماج” (Fitting In) لفابيين شتاينر، فيقدّم دراسة معمّقة للحياة الطلابيّة في سكن جامعيّ خاصّ بالذكور في جامعة ستيلينبوش بجنوب أفريقيا، حيث لا تزال آثار نظام الفصل العنصريّ حاضرة بوضوح في النسيج الاجتماعيّ. وبدورها، تتبنّى لورانس فافر، في فيلمها ”رسائل إلى الدكتور إل” (Lettres au Docteur L)، منحى تجريبيًّا، تستكشف من خلاله مذكّرات طبيب ومبشّر سويسريّ أُوفد إلى جنوب القارّة الأفريقيّة في القرن التاسع عشر. 

وتتناول هذه الأفلام الثلاثة، عبر استراتيجيّات سرديّة وتعبيريّة متباينة، تداعيات الاستعمار الغربيّ المستمرّة، مسلّطة الضوء على أنماط الهيمنة الأوروبيّة السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، التي طبعت المجتمعات الإفريقيّة عبر قرون طويلة. وتعدُّ هذه الأفلام، التي تركّز على مجتمعات بعينها، محاولات متواضعة، لكنّها نافذة، في تحدّي الأنظمة الراسخة في الهيمنة الاقتصاديّة والثقافيّة. 

محتويات خارجية

ولطالما انطوت صناعة الأفلام الوثائقيّة، بوصفها شكلًا إبداعيَّا، على خلل بنيويّ في ميزان القوى بين مَن يقف أمام الكاميرا ومَن يتحكّم فيها من الخلف؛ إذ ظلّ الأخير، عبر التاريخ والتقاليد، رجلاً أبيض من الغرب، ولم يكن المخرجون السويسريون والمخرجات السويسريات استثناءً لهذه القاعدة. وفي هذا السياق، يقدّم فيلم ”المرآة الإفريقيّة” (African Mirror) لميشا هيدينغر (2019)، والمعتمد على أرشيفات تاريخيّة، تحليلًا لافتًا لهذه الصورة النمطيّة، من خلال استعراض مسيرة الرحّالة وصانع الأفلام السويسري، رينيه غاردي. 

ومع ذلك، أخذت ملامح التغيير تلوح في الأفق. فمع ازدياد التنوع الثقافي والإثني في سويسرارابط خارجي، تعكس الأفلام الثلاثة، المشاركة في المسابقة الوطنية لمهرجان “رؤى من الواقع”، وكلّها أعمال أولى لمخرجات سويسريات، ملامح رؤية جديدة للسينما؛ رؤية تتجاوز الحدود الجغرافيّة والهويّات الوطنيّة الضيّقة، وتنبذ مركزيّة الصوت الغربيّ التقليديّ، كما تفسح المجال لتنوّع التجارب الإنسانيّة، وتكسر الصور النمطيّة التقليديّة التي طالما حكمت أدوار النساء والرجال في السرد السينمائيّ. 

المزيد

المزيد

كيف شكّل رينيه غاردي نظرة السويسريين إلى إفريقيا

تم نشر هذا المحتوى على “لقد تجنبت دائما تقديم رؤية متحيّزة للواقع من خلال صوري”. لم يشك غاردي يوما في البعد الوثائقي لأعماله، مثلما شرح ذلك في عام 1985 في رسالةرابط خارجي بعث بها إلى مركز الدراسات الإفريقية، في آخر أيام حياته. عمل أخلص له، وتحاول المخرجة الشابة ميشا هيدينغر، من أصل برناوي هي الأخرى، تفكيكه من خلال عملها الوثائقي “المرآة الإفريقية”…

طالع المزيدكيف شكّل رينيه غاردي نظرة السويسريين إلى إفريقيا

إرثٌ مزدوج 

وتدرك سارة إمسند، مخرجة فيلم “كيفين وفورتون”، إمكانات التعبير السينمائيّ وحدوده ومقيّداته. وتقول في هذا السياق: “هذا الفيلم هو خطوتي الأولى، وهي خطوة بالغة الأهميّة بالنسبة إليًّ، وأرغب في أن أواصل مسيرتي عبر تحدي نفسي دون كلل، سعيًا إلى تطوير أشكال التمثيل القائمة وتجاوزها”. وتنطلق إمسند، ابنة لأب إثيوبيّ وأمّ سويسريّة، من تجربة شخصيّة تمنحها حساسيّة فائقة إزاء مظاهر التمييز التي تواجه المنحدرين.ات  من أصول إفريقيّة في المجتمع السويسريّ. ولاحقًا، انعكست نظرتها الثاقبة إلى تفاوت الامتيازات الاجتماعيّة، في عملها الإبداعيّ ومنهجها الفني. 

ويعود مشروع “كيفين وفورتون” إلى بحث أكاديميّ مشترك بين سويسرا والكاميرون والسنغال، تناول مشاركة الشابات الإفريقيّات في عالم كرة القدم. وقد واكبت إمسند هذا المشروع بإنتاج سمعيّ وبصريّ، شكّل لاحقًا الأساس الذي انطلق منه فيلمها الوثائقيّ. 

ويتميّز الفيلم بعاطفة مرهفة، ودفء إنسانيّ ملحوظ، حيث جعلت المخرجة من الصداقة محور السرد، بدلًا من تقديم قراءة اجتماعيّة تحليليّة واسعة. وتوضح رؤيتها قائلة: “لم أرد أن يظهر الفيلم وكأنّه يصدر أحكامًا عامّة على المجتمع الكاميرونيّ أو على أوضاع النساء فيه، فمن شأن ذلك أن يضعفني لأنّه كان سيجعلني أمارس سلطة تفسيريّة، وهو ما لا أؤمن به”.

محتويات خارجية

أمّا مشروعها المقبل، فسيكون فيلمًا وثائقيًا عن حياتها الشخصيّة تستعيد فيه حكاية عائلة والدها، عبر استكشاف جذورها الإثيوبيّة. وتقول في هذا الشأن: “بعد أن نشأت في سويسرا، أشعر بالحاجة إلى التأمّل في علاقتي بعائلتي الإثيوبيّة؛ ما ورثته عن أقاربي، وما بقي بمنأى عني، بل والأسباب التي دفعت أفراد عائلتي إلى الامتناع عن نقل بعض الجوانب الثقافيّة، وماهية تلك الجوانب التي فاتتني”. 

وهكذا تمضي سارة إمسند بخطى هادئة، لكنّها واثقة، في رسم معالم سرد سينمائي جديد يتجاوز الحدود والمسلّمات، ويعيد رسم العلاقة بين الذات والآخر، بين إرثٍ قُدّر لها أن تحمله، وخيارٍ تبنّته بقلبها وعقلها. 

أخطاء الماضي

لورانس فافر
المخرجة لورانس فافر

انبثقت لدى لورانس فافر، مخرجة فيلم “رسائل إلى الدكتور إل”، رغبة متنامية في استكشاف أرشيفات البعثات التبشيريّة، بعدما ورثت مجموعة من الأفلام والرسائل العائليّة تعود إلى أحد أقاربها، الذي خدم في بعثة سويسريّة. وقد مثّل هذا الإرث الثقافي والشخصي نقطة انطلاق لتأمّلها النقديّ، الذي بدأ يتشكَّل في فيلمها القصير، “نوا-مانكامانا” ( Nwa-Mankamana)، عام 2013.

وتقول فافر: “من المهمّ أن نسأل أنفسنا دومًا: كيف نتفادى تكرار الأخطاء التي ارتُكبت في الماضي؟”. واعتمدت في “رسائل إلى الدكتور إل”، أسلوب حوار يتجاوز الأزمنة والأمكنة؛ إذ دعت أشخاصًا من جنوب القارّة الإفريقيّة إلى كتابة رسائل موجّهة إلى الدكتور إل. وتُقرأ هذه الرسائل بتقنية الصوت الخارجي (Voice-over)، فتتحوّل إلى كبسولات صوتيّة تحرّر الذكريات من قيود الزمن، وتمنح الحاضر فرصة مساءلة الماضي. 

وفي معرض تعليقها على موجة المعارض الفنيّة التي شهدتها سويسرا مؤخرًا، والتي سلّطت الضوء على ماضيها الاستعماريّ، نبّهت فافر إلى ضرورة التحلّي باليقظة في التعامل مع التيّار الفكريّ الجديد، الذي يسعى إلى نقد الموروث الاستعماريّ. وأوضحت قائلة: “هناك ميل إلى التعامل مع الأرشيفات باعتبارها مجرّد شهادة على ماضٍ مظلم، وكأنّ كل المظالم توقّفت عند عتبة التاريخ، متناسين أنّ العنصريّة البنيويّة، أي تلك المتغلغلة في البنى الاجتماعيّة والمؤسساتيّة، لا تزال قائمة حتّى اليوم”. 

وتضيف: “نحن لا نزال في بدايات خجولة جدًا لمحاولات نقديّة، كثيرًا ما نتوهّم أنّها أكثر رسوخًا، وهي، أوهى، مما نتخيّل”. 

محتويات خارجية

سويسرا وإرث النظرة الاستعمارية

وفي دول كانت في ما مضى إمبراطوريّات، كفرنسا وبلجيكا، حيث لا تزال تركة الاستعمار حاضرة بأشكال مختلفة، كثيرًا ما تغدو السينما وسيلة للغفران أو للمساءلة. وعلى هذا الصعيد، تحتلّ سويسرا، تلك الدولة التي لم تمتلك مستعمرات رسميًا، لكنّها تبنّت في الماضي نظرة أوروبا البيضاء القائمة على التفوّق والسيطرة، موقعًا فريدًا ومفارقًا. 

وتقول إميلي بوجيس، المديرة الفنيّة لمهرجان “رؤىمنالواقع”، تعليقًا على وجود ثلاثة أفلام تتمحور حول أفريقيا ضمن البرنامج: “لطالما كانت لدى سويسرا تقاليد راسخة في تصوير الأعمال خارج حدودها الوطنيّة”. وتضيف موضّحة: “ورغم أنّنا لم نلحظ مؤخرًا زيادة كبيرة في عدد هذه الأفلام، يظلّ حضور الأعمال التي تناولت الاقتصادات المهمّشة أو صُوّرت في بيئات هامشية ثابتًا عبر تاريخ السينما السويسريّة”. 

وترى بوجيس أنّ هذه الظاهرة لا تعود إلى دوافع ثقافيّة أو خيارات جماليّة، بقدر ما ترتبط بإمكانات التمويل والدعم الماليّ المتاح للمخرجين السويسريين والمخرجات السويسريات، مشيرة إلى أنّ ” تمكّن هؤلاء من السفر إلى أربعة بلدان مختلفة لتصوير أعمالهم.هنّ، بفضل الميزانيّات السخيّة التي أتاحت تنفيذ مشاريع تتوزّع عبر جغرافيات متعدّدة، وهي حقيقة لا يمكن إنكارها”. 

إميلي بوجيس
إميلي بوجيس، المديرة الفنيّة لمهرجان “رؤى من الواقع” Sebastien Agnetti

ورغم أن الجمهور الأوروبيّ لا يزال، إلى حدّ بعيد، غير مهيّأ لاستقبال القراءات الجديدة التي تعيد مساءلة الإرث الاستعماريّ وكشف امتداداته المعاصرة، أو لإعادة قراءة تاريخه قراءة نقديّة تتجاوز السرديّات التقليديّة المنتصرة للغرب، بل وقد يرى البعض في “حركة الوعي” (woke movement) تهديدًا مبطنًا لثوابته الثقافيّة، فإنّ اتساع هذه النقاشات يعكس تحوّلًا عالميًا أعمق، يمسّ بنية صناعة السينما واتجاهاتها الفكريّة.

وفي مواجهة هذا الواقع المتغيّر، تعرب بوجيس عن ثقتها بقدرة الجمهور على التحليل والتمييز قائلة: “تُعد مشروعيّة النظرة النقديّة مسألة دقيقة، ولا يمكن الجزم فيها بسهولة، غير أنّني أتحفّظ عن إصدار أحكام قاطعة، لأنّني أؤمن بأنّ لدى الجمهور ما يكفي من الذكاء والوعي النقدي لتقدير أهميّة أيّ عمل سينمائيّ، بالاستناد إلى الأدوات التحليليّة والمعرفيّة التي يمتلكها”. 

ترجمة: جيلان ندا

مراجعة: ريم حسونة

التدقيق اللغوي: لمياء الواد

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية