مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

شيعة العراق: عُـرس أم مآتم؟!

يعتبر المرجع الديني آية الله علي السيستاني والزعيم الشاب مقتدى الصدر من أهم الشخصيات المؤثرة في الساحة العراقية في الوقت الحاضر swissinfo.ch

أي مصير ينتظر شيعة العراق، بعد انتخابات 30 يناير الحالي؟

هل هي أعراس النصر بوصولهم إلى السلطة، أم مآتم الأحزان بسبب التمزقات المُـحتملة، التي قد تضرب النسيج الاجتماعي العراقي، وعلى رأسه النسيج الشيعي بسبب هذه الانتخابات؟

ولكن قد يتساءل البعض: أليس هناك مرحلة وسيطة ما بين العرس والمأتم؟

لنقُـل أولاً، أن الهيمنة المتوقعة للشيعة على البرلمان العراقي ليست حدثاً عادياً. فهذه ستكون المرة الأولى منذ 500 عام التي يتمكّـن فيها الشيعة العرب، بكونهم شيعة لا مواطنين، من الوصول الى السلطة السياسية.

صحيح أن الشرق الأوسط الإسلامي شهد في التاريخ نشوء العديد من الدول والإمبراطوريات الشيعية، لكنها لم تكن في معظمها جعفرية أو اثني عشرية كالدولة الفاطمية في مصر، والحشاشين في سوريا، والزيديين في اليمن، والقرامطة في البحرين، الذين سرقوا الحجر الأسود من الكعبة في مكّـة واحتفظوا به عشر سنوات.

قد تكون هذه الواقعة الأولى التي تصل فيها الشيعية الجعفرية العربية إلى الحكم، وسيكون عليها بالتالي، إثبات قُـدرة فائقة على تعلّـم فن السلطة بسرعة، خاصة منه ما يتعلّـق بالحفاظ عليها (السلطة) عبر تغليب الحنكة السياسية، والنزعة الوطنية، وإبرام التحالفات الضرورية مع الفئات العراقية الأخرى.

ولنقُـل ثانياً، إن شيعة العراق ليسوا هم أنفسهم كتلة واحدة متجانسة، إذ فيهم السيستانيون (أتباع آية العظمى علي السيستاني، الذين يُـقدّر عددهم بنحو 4 ملايين شخص)، الذين يقلدون بدورهم آية الله العظمى الخوئي الراحل، وهذا الأخير رفض رفضاً قاطعا نظرية آية الله الخميني حول ولاية الفقيه وتدخّـل رجال الدين المباشر في السياسة.

السيستاني، مع ذلك، لا يُـمانع في ممارسة الملالي السلطة من وراء الكواليس، تحت شعار الحفاظ على القيم الإسلامية، وهو يمثل الآن القوة الموّحدة الوحيدة لغالبية القوى السياسية الشيعية المتنافسة. وفي حال غيابه لسبب أو لآخر، قد لا تدوم هذه الوحدة طويلاً.

وفيهم الصدريون (أنصار مقتدى الصدر)، وهو تيار يختلف بشكل عميق مع تيار السيستاني حول كل شيء تقريبا: العلاقة مع قوات الاحتلال الأمريكي، وأساليب المقاومة، ومسألة المشاركة في السلطة السياسية التي وُلدت في حُـضن الاحتلال. والأهم، الخلاف حول مسألة “ولاية الفقيه” والصراع على المرجعية الشيعية.

وبرغم أن مقتدى الصدر، وهو نجل آية الله صادق الصدر، الذي عَـيّن نفسه ولي الفقيه قبل أن يغتاله صدام حسين قبل نحو ستة أعوام، صغير السن نسبيا (32 عاما)، ويفتقد إلى الخبرة السياسية، إلا أنه أحرج السيستاني مرارا بمواقفه العنيفة ضد الاحتلال، وأثبت قُـدرة على تحريك مشاعر الفتية والفقراء الذين يشكّـلون غالبية الشيعة، الذين يُـشكلون بدورهم غالبية الشعب العراقي (زهاء 60%).

وهناك الصراعات السياسية والأيديولوجية الحادة بين الأحزاب الشيعية الرئيسة المتحالفة إنتخابياً الآن، خاصة بين المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وحزب الدعوة، والتي قد ينفرط عقدها في أي وقت.

ثم أن في الشيعة ذلك التيار السياسي، الذي جاء من المنافي إلى السلطة على متن الدبابات الأمريكية، والذي يُـشرف حالياً على عملية إعادة بناء مؤسسات الدولة العراقية الجديدة. وهذا الفريق يُـعاني من أزمة صدقية مع العراقيين، وهذا ليس فقط بسبب إضطراب الوضع الامني.

فلكي يثبت أنه وطني عراقي، يتعيّـن على هذا التيار أن يتّـخذ مواقف متمايزة عن تلك التي يتبنّـاها الاحتلال، وهذا ما لا يستطيع أن يفعل. ولكي يحافظ على بقائه في السلطة، عليه أن يُـثبت باستمرار أنه قادر على نيل ثقة الأمريكيين، وهذا ما يُـفقده الصّـدقية لدى الشيعة وباقي العراقيين.

وأخيرا، هناك تلك المروحة الواسعة من الاستقطابات التي يتكسّـر على نصلها الجسم الشيعي. فهناك الليبراليون كما الشموليون، والملكيون كما القاسميون (نسبة لعبد الكريم قاسم)، والشيوعيون كما القبليون والطائفيون، إضافة إلى أكثر من 14 رابطة قبلية، وعشرات المؤسسات الدينية المستندة إلى الطائفية (أهمها مؤسستا السيتساني والصدر) و140 منظمة من كل ألوان الطيف الأيديولوجي.

“وليمة مُـغرية”

تشكّـل هذه التكسّرات الداخلية الشيعية وليمة مُـغرية يسيل لها لُـعاب القوى الإقليمية والدولية، التي تتنافس الآن على كسب حظوة الشيعة، وكان هذا أمرا متوقّـعا لكون شيعة العراق يشكّـلون “كتلة حرجة” للغاية (ومتقلبة للغاية) بالنسبة للعديد من هذه القوى.

فهم يمكن أن يكونوا، بالنسبة لإيران، امتدادا حيويا وإستراتيجيا وإيديولوجيا بالغ الإيجابية، إذا ما نجح الملالي في طهران في إستمالتهم إلى طبعتهم الثورية الخمينية. لكنهم، يُـمكن أن ينقلبوا إلى خطر إستراتيجي وإيديولوجي داهم، إذا ما ناصبوا هذه “الخُـمينية” العداء، إذ حينذاك، سينقلب العالم كله إلى ساحة صراع عنيف بين النجف العراقية “المعتدلة”، وبين قُـم الإيرانية “المتطرفة”.

وهذه الازدواجية “الإيجابية – السلبية” نفسها، تسحب نفسها على الدول العربية “السُـنّية” في المنطقة، التي سيعتمد موقفها منهم على موقفهم هم (الشيعة) من إيران، وهذا يعني أن هذه الدول ستقبلهم في صفوفها كأول دولة عربية ذات وجه شيعي، إذا ما تحوّلوا إلى منطقة عازلة بين العرب والفرس، لا كامتداد للفُـرس في أرض العرب.

أما أمريكا، فتبدو الأكثر اهتماما من كل الأطراف الأخرى بمصير الشيعة، لأنها مُـضطرّة من جهة، للاعتماد على قُـوّتهم العددية في العمليات السياسية الانتخابية، التي تنوي إدخالها في العراق الجديد، ولأنها تسعى من جهة أخرى، إلى إخماد التمرّد السُـنّي الخطير ضدّها بتحريك الشيعة ضدّه.

وبالطبع، لن تكون واشنطن في وارد تسليم السلطة إلى شيعة عراقيين “متأيرنين” (نسبة إلى إيران)، في خضَـمّ معركتها الكُـبرى مع نظام الملالي. ومن هنا، اهتمامها الشديد في إضعاف حركة مُـقتدى الصّـدر، وتقوية حركة علي السيستاني، وأيضا تهديدها المستمر بإعادة السلطة إلى جنرالات “السُـنة”، في حال يمّـمَت غالبية الشيعة وجهها صَـوب طهران.

ويعتقد بعض المراقبين أنه لا يُـستبعد أن تلجأ واشنطن إلى استئناف الغزل مع البعثيين (الذين يُـقال أن لديهم الآن عشرات الآلاف من المقاتلين من الجيش العراقي السابق)، في حال تمرّد الشيعة عليها، أو فشلوا في السيطرة على حركة أبو مُـصعب الزرقاوي وباقي الحركات الأصولية السُـنّية والشيعية المتطرفة.

الكوكتيل

كل هذه المُـعطيات تعطي زخما إضافيا للتجاذبات الإقليمية والدولية الحادّة، التي يتعرض لها حاليا شيعة العراق، والتي تكاد تُـمزّق النسيج الشيعي، لا بل هي بدأت تُـمزّقه بالفعل بعد أن انشطر الشيعة إلى صدريين وسيستانيين، ومتطرفين ومعتدلين، ومتعاونين مع الاحتلال ومعارضين له، علمانيين ودينيين.. الخ.

كما بدأت شروخ هذا التشظّـي تصل إلى المعطى الجغرافي مع بدء تلويح بعض القوى الشيعية مؤخّـرا بفصل الجنوب (الذي يحتوي على 90% من نفط العراق) عن السلطة المركزية في بغداد.

وإذا ما عنى هذا الأمر شيئا فإنه يعني:

1- أن الصراع على إنتماء الشيعة العراقيين سيتواصل بكل الأسلحة، السياسية والاقتصادية والعسكرية، بين كل الأطراف الإقليمية والدولية، قبل الانتخابات وبعدها.

2- أن الصراع داخل الشيعة بالتالي، سيتواصل هو الآخر، داخل كوكتيل غير متناغم (وبالتالي متفّجر) من التباينات التي يقف فيها الصدريون ضد السيستانيين، و(لاحقا)، السيستانيين ضد العلاويين، والدينيين ضد العلمانيين، والطائفيين ضد الوطنيين، والشوفينيين ضد العروبيين، وأخيرا، الجهويين الانفصاليين ضد الوحدوييين الوطنيين.

3- أن تصاعد المقاومة المسلحة العراقية لن يُـسفر سوى عن تفاقم هذه التناقضات، لأنه سيُـؤدي إلى المزيد من الفرز داخل الشيعة حيال مسائل الشرعية والاستقلال والسيادة الوطنيين.

هل يعني ذلك أن الطريق يبدو مسدوداً أمام شيعة العراق؟ فلنقل، على الأقل، إنه طريق محفوف بمخاطر كبرى. وقد كان الكاتب الأمريكي فيب لامار، أول من تنبّـأ بغَـرَق الشيعة والعراق في لجج مثل هذه الصراعات الحادة، بحثا عن هوية جديدة.

ففي كتابه “تاريخ العراق الحديث”، قال: “العراق والشيعة يبحثون الآن عن رؤية جديدة، لا بل أيضا عن هويّـة ثقافية وسياسية مُـغايرة لا تتطلّـع إلا إلى الداخل العراقي. لكن هذا لن يكون سهلا أبداً”.

لماذا لن يكون سهلاً؟ لأنه، من سوء حظ الشيعة والعراق، أنّ بحث هذا الأخير عن هويّـته وحتى عن مُـقوّمات وجوده ككيان سياسي، يجري فيما العراقيون غاطسون حتى أذنيهم في مُستنقع “حروب الآخرين” على أرضهم.

فهل يكون حظه سعيدا في وقت ما، إذا تم التوافُـق سريعا بين الدول الإقليمية والدولية على وقف صراعاتها من خلال مؤتمر بإشراف الأمم المتحدة، كما طالب الأخضر الإبراهيمي؟ أم يكون حظّـه عاثرا كلُـبنان خلال الفترة بين 1975- 1989، فيتحول إلى إسفنج يمتص كل بلايا الشرق الأوسط وتناقضاته؟

الكثير هنا سيعتمد على بروز نُـخبة جديدة في صفوف الشيعة العراقيين، تقوم بنقلهم من التقوقع الطائفي إلى الانفتاح الوطني، ومن العزلة الوطنية إلى الدور العربي الفاعل القادر وحده على تحصينهم ضد التدخلات الخارجية.

إذن لو يحدث ذلك، سيكون فيب لامار، على حق: ولادة الهوية العراقية الجديدة لن تكون سهلة البتة، لا بل هي ستكون أشبه بعملية جراحية قيصرية يُـشرف عليها خمسة أطباء دُفعة واحدة مُـتنازعين فيما بينهم حول كل شيء.

وبالطبع، مثل هذه العمليات قد تنجح في بعض الأحيان، لكن المريض في مُـعظم هذه الأحيان قد لا ينجو. وحينها، لن يكون من السهل بالنسبة للشيعة، العثور على مرحلة وسيطة ما بين العرس والمأتم.

سعد محيو – بيروت

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية