مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

سوريا وأمريكا “على صفيح ساخن”؟

إطلاق الشماريخ في سماء بيروت أمام مبنى البرلمان اللبناني في أعقاب مصادقة أعضاء البرلمان على تحوير دستوري يتيح للعماد إميل لحود الإستمرار في منصب الرئاسة لثلاث سنوات إضافية Keystone

شكل قرار مجلس الامن رقم 1559 ذروة الضغط الدولي المتزايد على سوريا من أجل تغيير موقفها وسلوكياتها من العديد من القضايا والملفات وعلى راسها لبنان.

في المقابل، تواصل دمشق بطريقتها الخاصة ممارسة لعبة “القط والفأر” مع الإدارة الأمريكية رغم تبدل الظروف والتوازنات ..

“قرار مجلس الامن الرقم 1559 والضغط الدولي المتزايد على سوريا، لم يكونا ممكنين من دون قرار إيهود باراك بالانسحاب من لبنان في أيار – مايو 2000 . فهذا الانسحاب أضفى الشرعية على تدخل الاسرة الدولية ضد سوريا. لقد حان الوقت كي تدفع سوريا حصتها لإحياء إستقلال لبنان” .

هكذا أطلت صحيفة “هآآرتس” الاسرائيلية (بتاريخ 5 سبتمبر 2004)، على التطورات الدرامية التي شهدها لبنان مؤخرا، والتي شهدت صراعا بين مجلس النواب اللبناني الذي تسيطر عليه سوريا، وبين مجلس الامن الدولي الذي تسيطر عليه اميركا، حول إنتخابات الرئاسة ومعها شرعية الدور السوري في لبنان.

مجلس الامن، كما هو معروف، طالب قبل يوم من اجتماع مجلس النواب ، بـ “انتخابات رئاسية حرة وعادلة” في لبنان، إضافة الى “انسحاب كل القوات الاجنبية من لبنان وحل الميليشيات فيه” . فيما مجلس النواب ضرب عرض الحائط بالقرار وصّوت بأغلبية 97 صوتا لصالح الرغبة السورية بالتمديد للرئيس إميل لحود ثلاث سنوات أخرى.

ولكن، هل إستنتاج “هآآرتس” في محله؟.

القط والفأر

يبدو أن الامر كذلك .

فقد أوضح التحرك الاميركي في مجلس الامن، والذي طالب عمليا بإعتبار الوجود السوري في لبنان احتلالا، المدى الذي يمكن ان تذهب اليه واشنطن في مسيرة ضغوطاتها على سوريا.

والارجح ان هذا فاجأ المسؤولين السوريين، الذين تعودوا طيلة العقود الثلاثة الماضية ممارسة لعبة “القط والفأر” مع الاميركيين، لكن على نمط الصور المتحركة التلفزيونية حيث تحدث أفظع الاحداث بدون أن يؤدي ذلك لا الى مصرع القط ولا الى نفق الفأر.

بكلمات أوضح ، كانت العلاقات السورية – الاميركية طيلة الحقبة الماضية تشهد أزمات حادة، لكن هذه الازمات كانت تنحسر فجأة حال وصول العلاقات الى حافة الهاوية أو الصدام.

لكن الصورة بدت مختلفة هذه المرة. فالقط الاميركي لا يلعب ولا يمثّل. والموقف المتشنج للغاية الذي اتخذه في مجلس الامن، لن يكون الاخير، خاصة بعد ان نص القرار 1559 على أن يقدم الامين العام للأمم المتحدة تقريرا خلال شهر حول مدى إلتزام لبنان وسوريا بتنفيذ هذا القرار؛ وأيضا بعد اتهام البيت الابيض لدمشق بالضغظ على النواب اللبنانيين للتمديد للرئيس لحود.

الانقلاب

لماذا انقلب الموقف الاميركي على هذا النحو؟. ثمة أسباب أساسية إقليمية وأخرى فرعية لبنانية .

الاسباب الاقليمية تعود جذورها الى ما بعد الغزو الاميركي للعراق العام 2003. آنذاك، اعتبرت واشنطن أن هذا الغزو قلب المعطيات الاسراتيجية في الشرق الاوسط رأسا على عقب، وبالتالي سيتعين على الاطراف المحلية والأقليمية، بما في ذلك سوريا، التأقلم مع الظروف الجديدة. آنذاك أيضا، شعرت سوريا بانها عاجزة عن هذا التأقلم، لانه سيؤدي عمليا الى نسف مبررات وجود نظامها نفسه. لماذا؟.

لأن الاميركيين تقدموا بالمطالب – الشروط الاتية:

– ضمان أمن القوات الاميركية في العراق، عبر وقف تسلل الافراد والاسلحة والاموال عبر الحدود السورية الى بلاد ما بين النهرين، والتعاون سياسيا وامنيا مع الحكومة التي عينها الاميركيون في بغداد.

– ضمان أمن إسرائيل في جنوب لبنان، من خلال حل ميليشيات حزب الله ونشر الجيش اللبناني على الحدود، وسحب القوات السورية من منطقة البقاع الاستراتيجية.

– ضمان أمن أميركا وإسرائيل معا ضد ما تسميه الادارة الاميركية الارهاب وأسلحة الدمار الشامل السورية.

وتفرع من هذه المطالب – الشروط الاساسية، شروط فرعية عدة، لكنها لا تقل أهمية: تجميد التحالف السوري – الايراني ووقف الامدادات الايرانية الى حزب الله اللبناني عبر الموانيء والمطارات السورية، إغلاق مكاتب حماس والجهاد والمنظمات الفلسطينية المعارضة في دمشق والامتناع عن التدخل في الشأن الفلسطيني؛ وإجراء إصلاحات سياسية وإقتصادية في الداخل.

بيد أن واشنطن لم تتوقف عند حدود المطالب، بل أرفقتها بسلسلة طويلة من الضغوط العملية التي كانت تمارس بالتدريج ضد دمشق:

1- إقرار الكونغرس والحكومة الاميركيان لقانون محاسبة سوريا، الذي يفرض عقوبات إقتصادية على دمشق لدعمها “الارهاب” و لـ ” احتلالها ” لبنان (وفق نصوص هذه الوثيقة).

2- إبقاء خط انبوب النفط كركوك – طرطوس مغلقا، الى ان ترضخ سوريا للمطالب السياسية والأمنية الاميركية.

3- تطبيق ” قانون باتريوت ” للعام 2001، الذي يسمح للولايات المتحدة بـ ” مصادرة ” أو “تصفية” ممتلكات دولة أجنبية تساعد أعداء الولايات المتحدة خلال الحرب ( لدى سوريا 133 مليون دولار في أميركا).

4- منع الشركات الاميركية من مواصلة العمل مع دمشق.

5- معارضة منح سوريا أية قروض من جانب المؤسسات متعددة الجنسيات، بما في ذلك صندوق النقد الدولي والبنك العالمي.

6- حث تركيا على التعاون في جهد إقليمي لتغيير سلوك دمشق، من خلال التهديد بخفض المياه المتدفقة من تركيا الى سوريا.

7- تحريك الورقة الكردية في الداخل السوري. وهذا تم في “ثورة الكرد” في القامشلي التي امتد لهيبها سريعا الى مدينة دمشق نفسها.

8- الضغط على قمة الثمانية الكبار للإنضمام إلى اميركا في فرض عقوبات تجارية على سوريا، وتجميد إتفاقية الشراكة بينها وبين الاتحاد الاوروبي.

9- وأخيرا ، الضغط لـ “تطهير” سهل البقاع اللبناني بدعوى أنه أصبح مأوى لكل منظمة إرهابية رئيسة لا يوجد مقرها العام في دمشق. لا بل ادعت شبكة “آي . بي . سي” أن ممثلي المنظمات الارهابية، بما في ذلك القاعدة، عقدوا إجتماعا سريا في البقاع برعاية سوريا لوضع الخطط ضد الولايات المتحدة.

البعد الاستراتيجي

الى ذلك ، نشر الباحث الاستراتيجي الاميركي في مؤسسة بروكينغز جايمس ستاينبرغ دراسة مؤخرا، وضع فيها تحرك واشنطن ضد دمشق في إطار إستراتيجية الامن القومي الأميركي التي وضعتها إدارة بوش بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.

فبرأيه، ثمة بيانات عديدة للرئيس بوش ومستشاريه الكبار، توضح أنّ الحرب ضد العراق ينبغي اعتبارها مجرد جزء من استراتيجية أوسع. وفي خطبه عن حال الاتحاد، حدّد بوش ما يسمّى بـ “محور الشر” وضمّنه كلاً من ايران وكوريا الشمالية والعراق وضمنا سوريا. وبعد وقت قصير من السنة عينها، وفي خطابه في كلية “وست بوينت” العسكرية، أعلن بوش عقيدته الجديدة التي تفيد بأنّ العالم في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، يتطلب من الولايات المتحدة شن حرب إستباقية ضد الدول المارقة والإرهابيين الذين يسعون الى امتلاك اسلحة دمار شامل، حتى قبل أن يشرع هؤلاء بتوجيه خطر مباشر الى الولايات المتحدة.

سوريا وليبيا كانتا “عضو الشرف” في نادي “محور الشر” هذا. وقد اعتبرت واشنطن ان هاتين الدولتين هما الحلقة الأضعف (وفق الدراسة) من بين أنظمة هذا المحور، اللتين سيسهل تغيير حساباتهما، لسبب رئيس هو أنّ تهديداً عسكرياً اميركياً ولو على نحو ضمني، قد يكون كافيا لحملهما على التفكير جدياً بهذا الأمر. إذ ليس متوقعاً أن تتمكن كل من سوريا و ليبيا من أن تفعل الكثير إزاء هجوم أميركي.

و لكن في حالة كوريا الشمالية، فانّ القيام بضربة عسكرية استباقية ضد منشاتها النووية، من شأنه أن يشعل فتيل حرب واسعة المدى في شبه الجزيرة الكورية. و كذلك الأمر بالنسبة الى ايران؛ فحتى لو استطاعت الولايات المتحدة تحديد منشاتها النووية وضربها، يبقى السؤال قائماً حول النتائج المترتبة على هذا الأمر. والأرجح أنّ أولاها سيتمثل في مهاجمة المنشأت الأميركية في الخليج، وقد لا ينجو من هذه الضربة قوات التحالف في العراق.

نقطة الوجع

هذه المعطيات الاستراتيجية هي التي املت على واشنطن تصعيد ضغوطها على سوريا. وحين لم تمتثل هذه الاخيرة لهذه الضغوط ، او حاولت التملص منها، قررت واشنطن توجيه ضربة اليها في الخاصرة التي توجعها اكثر: لبنان.

معروف أن بلاد الارز تعتبر الورقة الاقليمية الوحيدة المتبقية في جعبة دمشق، بعد ان خسرت الاوراق الفلسطينية والاردنية والعراقية. كما ان لبنان يعتبر متنفسا إقتصاديا مهما لكل من أكثر من مليون عامل سوري، وللعديد من رجال الاعمال والسياسيين السوريين. وبالتالي، تعني خسارة ورقة لبنان، أن النظام السوري سيكون مضطرا الى التراجع الى خطوط الدفاع الاولى عن نفسه في دمشق نفسها.

واشنطن، التي تعرف هذه الحقيقة جيدا، وضعت السوريين أمام خيارين: إما قبول شروطها الاقليمية مقابل إحتفاظهم بنفوذهم في لبنان، أو البقاء على مواقفهم الاقليمية الخطرة مع خسارة نفوذهم في لبنان.

وهذا الخيار المر، الذي ترجم نفسه في قرار مجلس الامن رقم 1559، جاء تتويجا لسلسلة الضغوط المتصاعدة على سوريا التي أشرنا اليها.

بالطبع ، دمشق تعي مخاطر هذه التحولات. لكنها ما تزال تراهن على أمرين: الاول، قرب الانتخابات الاميركية واحتمال الاطاحة بحكم المحافظين الجدد في البيت الابيض. والثاني، انحسار الطموحات الاميركية في الشرق الاوسط مع احتمال إنحسار مشروع هؤلاء المحافظين في العراق.

وإستنادا الى هذين الرهانين، قررت تحدي قرار مجلس الامن والتجديد للرئيس لحود، بهدف تحصين مواقعها اللبنانية (لان ولاء لحود مضمون تماما)، من جهة، والحفاظ على خطوط دفاعها في بيروت بدل دمشق، من جهة اخرى.

الى أين ؟

حسنا، إلى أين الان من هنا؟.

إلى مزيد من التوترات الخطرة في العلاقات السورية- الاميركية، خلال الشهرين المتبقيين على الانتخابات الاميركية.

فالمحافظون الجدد الاميركيون سيواصلون محاولة فرض أمور واقعة جديدة في العلاقات مع دمشق ، لإلزام أية إدارة اميركية جديدة بها.

والاسرائيليون سيحاولون الافادة من هذه الثغرة للدخول على خط الضغوطات على دمشق، بما في ذلك التهديد بإستخدام القوة العسكرية ضدها، كما حدث بعد عملية بئر السبع الانتحارية.

أما السوريون فسيكون عليهم السير بين النقاط هذه الايام، لمنع تحالف المحافظين الجدد الاميركيين والمحافظين القدماء الاسرائيليين، من انتهاز الفرص الراهنة لمحاولة جعل النظام السوري يلحق بمصير زميله النظام الليبي.

فهل ينجحون؟.

فلنتابع بدقة ما يجري، وسيجري، على “الساحة” اللبنانية!.

سعد محيو- بيروت

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية