مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

نظام عالمي جديد “بزعامة مترنيخ”!

الرئيس الأمريكي جورج بوش رفقة نظيريه الروسي فلاديمير بوتين والصيني هو جين تاو في قمة منظمة آسيا - المحيط الهادي للتعاون الاقتصادي المنعقدة يوم 19 نوفمبر 2006 في العاصمة الفيتنامية هانوي Keystone

أسفرت الانتخابات التشريعية الأخيرة في الولايات المتحدة عن "انهيار التحالف الجمهوري"، الذي سيطر على البلد منذ أواخر الستينات.

في المقابل، تشير أحدث الاستطلاعات إلى أن أكثر من نصف الأمريكيين باتوا يرفضون النهج الانفرادي في السياسة الخارجية لبلادهم، مقابل نسبة محدودة لا زالت تعتقد بأن القوة العسكرية يجب أن تظل المصدر الوحيد لهذا الأمن. فإلى أين تتجه الأمور؟

لندقق معاً في الأرقام والمعطيات الآتية:

1. 58% من الأمريكيين (وفق استطلاعات مؤسسة “غرينبرغ”) باتوا يرفضون النهج الانفرادي في السياسة الخارجية لبلادهم ويدعمون فكرة “إسناد أمنهم القومي إلى تحالفات قوية مع دول كبرى ومتوسطة أخرى في العالم”، هذا في مقابل 34% ما زالوا يؤمنون بأن القوة العسكرية يجب أن تبقى المصدر الوحيد لهذا الأمن.

2. الانتخابات التشريعية الأمريكية الأخيرة أسفرت عمّـا أسماه الكاتب البريطاني “انهيار التحالف الجمهوري”، الذي سيطر على أمريكا منذ أواخر الستينات، والذي وصل إلى ذِروة قوته مع رونالد ريغن ومع محافظي جورج بوش الابن الجُـدد. من الآن فصاعداً، لن تستطيع الولايات المتحدة مواصلة تخيير الدول الأخرى بين الالتحاق بقطارها المنطلق بسرعة أو البقاء على الهامش في محطات سكك التاريخ.

3. الباحث الإستراتيجي الأمريكي أنطوني كوردسمان، ومعه هنري كيسينجر، يعتقدان أن الهزيمة الأمريكية في العراق، كشفت حدود القوة الأمريكية، وستُـجبر الإدارات الأمريكية المتعاقبة على قبول فكرة نظام تعدّدي دولي، كذلك الذي بناه المستشار النمساوي مترنيخ في أوروبا في القرن التاسع عشر.

ماذا تعني هذه المعطيات؟

أمر واحد: النظام العالمي “وحيد القرن” (حسب تعبير المفكر الفرنسي إيمانويل تود) على وشك الأفول، ليحل مكانه نظام جديد قد أصبحت فيه الولايات المتحدة الأول بين متساوين، وهذا سيفسح المجال واسعاً أمام بروز قوى عالمية أخرى على مسرح الفعل في العلاقات الدولية.
وعلى أي حال، السفينة العالمية كانت أبحرت بالفعل في هذا الاتجاه، حتى قبل حرب العراق والانتخابات التشريعية الأمريكية بوقت غير قصير، وهي تجسّـدت أكثر ما تجسّـدت في التطورات الكبرى التي تجري هذه الأيام في اليابان وألمانيا، اللتين يحتل اقتصادهما، كما هو معروف، المرتبة الثانية والثالثة على التوالي في العالم.

لماذا؟ لأن كل المؤشّـرات تؤكّـد أن ألمانيا واليابان تقتربان بالفعل من طرح بذاتيهما السلميتين، اللتين التصقتا بهما كجلدهما منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتستعدان لارتداء الكاكي العسكري مجدّداً.

آثار إقدام هذه المؤشرات تبدو مبثوثة في كل مكان:
فـ “الورقة البيضاء”، التي أقرّتها المستشارة الألمانية قبل أيام، تدعو إلى زيادة كبيرة في عديد قوات التدخّـل السريع، التي يمكن نشرها في شتى أنحاء العالم (خاصة في الشرق الأوسط)، وإلى تحويل 250 ألف جندي ألماني نظامي إلى قوة ضاربة ومتحرّكة، قادرة على الانغماس في أعمال حربية خارجية. وحتى قبل هذه الورقة، كانت برلين تطوي بهدوء المادة 87 من دستورها لعام 1949، الذي يحظر عليها بناء قوات عسكرية لغير أغراض الدفاع، وتُـعيد ربط مفهومي، أمنها القومي ومصالحها الاقتصادية، بقوّتها العسكرية.

والأمر الألماني نفسه تكرّر في اليابان، وإن بوتائر أقل، بسبب التباين في المواقع الجيو – إستراتيجية لكلا الدولتين. ففي حين أن عودة الرايخ الألماني إلى العسكرة، يحظى بتأييد جيرانه الأوروبيين وتصفيق الولايات المتحدة، تجد اليابان نفسها مُـحاصرة بعدد لا نهاية لها من الدول الآسيوية التي تعارض بقوة إعادة بناء قوتها العسكرية.

وعلى رأس هذه الدول بالطبع، الصين التي أوضحت بجلاء أنها ستعتبر استئناف اليابان لأدوارها العسكرية، وَصلاً لِـما انقطع من طموحاتها الإمبريالية المتطرفة. وكذا فعلت كوريا الجنوبية وفيتنام وإندونيسيا، وعملياًُ كل دول شرق وجنوب شرق آسيا التي اكتوت بنار الغزو الياباني إبّـان الحرب الباردة.

ومع ذلك، وبرغم هذه الصعوبات، صليل السيوف بات يسمع بوضوح في طوكيو. فرئيس الوزراء الجديد، شينزو أبي، أعلن صراحة أنه ينوي تعديل أو حتى إلغاء المادة التاسعة من الدستور، التي تنص على الآتي: “إن الشعب الياباني سيُـدير ظهره إلى الأبد للحرب، بوصفها حقاً من حقوق سيادة الأمة وأيضاً للتّـهديد بالحرب أو اللجوء إليها، لتسوية النزاعات الدولية.

ولتحقيق هذا الهدف، لن تحتفظ اليابان بقوات برية وبحرية وجوية”، ومع هذا التعديل المرتقب، ستندفع اليابان بقوة لإعادة بناء قوتها العسكرية في ظل تبريرين: أحدهما آني، ويتمثل بالتهديد النووي والصاروخي الذي تفرضه كوريا الشمالية عليها، والآخر بعيد المدى، ويتعلق بالصعود الهائل للقوة الصينية في شرق آسيا على مرمى حجر من قلب طوكيو.

اليابان تستطيع، إذا ما أرادت، امتلاك الأسلحة النووية خلال ساعات. فهي تمسك كل المُـعطيات العلمية والتكنولوجية بهذا الشأن، وعلماؤها قادرون حتى منافسة الولايات المتحدة في مجال التطويرات النووية. بيد أن الأرجح، أنها لن تقدم على امتلاك القنبلة في هذه المرحلة على الأقل، أساساً، بسبب مُـعارضة شعبها لهذه الخطوة، وستركّـز بدلاً من ذلك على تطوير قوّتها الصاروخية والتقليدية.

لكن المحصّـلة سيان في الحالتين: عودة اليابان العسكرية إلى ساحة الفعل الدولي.

البداية والنهاية

أين الولايات المتحدة من كل هذه الانقلابات العسكرية المتسارعة لدى مهزومي الحرب العالمية الثانية؟

إنها البداية والنهاية فيها: هي المحرِّك الأول لعودة نَـزعة العسكرة هذه، وهي المحفّـز لكلا هذين البلدين العملاقين، اقتصاديا، على معاودة لعب أدوار عسكرية – أمنية كُـبرى فوق كل رقعة شطرنج النظام العالمي.
لكن، لماذا تقدم أمريكا على هذه الخطوة، برغم أنها هي التي فرضت على ألمانيا واليابان دساتير السلام ونزع السلاح بُـعيد الحرب العالمية الثانية؟

هناك سبب يتيم على ما يبدو: أمريكا غير قادرة وحدها على فرض سيطرتها العسكرية والأمنية على كل أنحاء العالم. صحيح أن إمبراطوريتها تُـشبه إلى حدّ بعيد الإمبراطورية الرومانية في سلوكياتها وطموحاتها وتُـراثها، لكنها تُـجابه تحدِّيات لم تعهدها الثانية: ثورات تكنولوجية حوّلت العالم إلى قرية إعلامية واحدة ورأي عام عالمي وقوى دولية وإقليمية سريعة الصعود إلى قلب مسرح التاريخ.

اعتقد المحافظون الجُـدد الجمهوريون أنهم قادرون على كسر قانون “التمدّد الإستراتيجي الزائد”، الذي عانت منه روما القديمة وباقي الإمبراطوريات من خلال استغلال التفوّق العسكري الكاسح لبلادهم، وهكذا استولَـدوا بسرعة خلال عهد الرئيس بوش “مبادئ” تحُـث كلها على استخدام القوة لفرض السلام الأمريكي، مثل “محور الشر” و”الحرب العالمية ضد الإرهاب” و”الدول الفاشلة” و”الدول ما قبل الحديثة المتمرّدة على العولمة”.. الخ.

لوهلة، بدا أن هذا المسعى سيكلَّـل بالنجاح. فأفغانستان سقطت بسرعة والعراق لحقها بشكل أسرع، وسوريا وإيران ومعهما مشروع الشرق الأوسط الكبير، بدوا كعناقيد عِـنب دانية القطاف، إضافة إلى أن العالم تأقلم مع فِـكرة القُـطب الواحد بعد أن تعوّد طويلاً على نِـظام الثنائية القُـطبية.

لكن عمر هذه الوهلة كان من عُـمر الورود، بعد أن تضرّج المشروع الأمريكي بدِمائه في العراق وأفغانستان، وبعد أن تمدّدت التمرّدات على الإمبراطورية إلى كل مكان تقريبا: من إيران إلى كوريا الشمالية، ومن روسيا إلى الصين، ومن فرنسا إلى أمريكا اللاتينية.

الآن تقف الزعامة الأمريكية على مُـفترق طرق، وعليها أن تقرر كيف يجب إدارة إمبراطوريتها بطُـرق أكثر فعالية، بيد أنها لن تكون طليقة اليَـد تماماً في مثل هذا القرار، بسبب التكاليف الاقتصادية الفادحة التي تبيًـن أنها غير قادرة على تحمّـلها وحدها (حرب العراق وحدها كلّـفتها نصف تريليون دولار، والعدّ مستمر).

القوى الصاعدة

هذا ما يدفع أمريكا الآن إلى تشجيع ألمانيا واليابان على إعادة التسلّـح وعلى مشاطرتها أعباء الإدارة العسكرية – الأمنية للإمبراطورية. لكن الأمر لن يقتصر على هاتين الدولتين.

فالهند كذلك تتطوّر بسرعة، لتُـصبح قوة عسكرية عالمية، أيضاً بحفز من أمريكا، والبرازيل بدأت تتأهّـب للَـعِـب دور مماثل، وكذا الإتحاد الأوروبي ككل، وروسيا لم تفقد بعدُ شهيّـتها كدولة عظمى عسكرية، وهي قادرة، نِـسبياً، على إحياء صناعاتها العسكرية بسرعة قياسية.

والحصيلة؟ إنها ستكون واضحة إذا ما أضفنا الصّـين وأمريكا نفسها إلى هذه الخَـلطة: ثمّـة عالم جديد بثمانية رؤوس يُـولد ببطيء الآن. صحيح أن هذه الولادة مقتصرة في هذه المرحلة على الجوانب العسكرية وصحيح أن واشنطن لا تزال تمسك بكل أوب معظم صنابير السلطة في النظام العالمي، إلا أنها ستكون مضطرّة بعد حين لوضع مشروع النظام العالمي ذي القُـطب الواحد على الرفّ وبدء في التفكير بنظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب.

النموذج الأمثل هنا قد يكون “الوفاق الأوروبي” في القرن التاسع عشر، الذي أشرف على تركيبه مترنيخ، (كما ألمحنا)، والذي تقاسمت بمُـوجبه الدوّل الغربية في العالم، لكن أمريكا لا تزال تُـقاوم حتى الآن مثل هذا الحل، لأنه سيعني تحوّلها من الأولى بين غير مُـتساوين في النظام الدولي، إلى الأولى بين مُـتساوين.

لكن إلى متى هذا “العناد”؟ ليس طويلاً على ما يبدو، راقبوا ألمانيا واليابان.

سعد محيو – بيروت

كان المستشار النمساوي كليمانس فون مترنيخ (1773 – 1859)، شخصية سياسية محورية في القارة الأوروبية في الفترة الممتدة من 1814 إلى 1848.

كان مترنيخ، الذي ولد في عائلة ارستقراطية من مدينة كوبلانس، رافضا للبيرالية والقومية والثورة، ويعتبر النظام السياسي المثالي، من وجهة نظره، ملكية تتقاسم السلطة مع الطبقات المرفهة في المجتمع.

تزوج سيدة من البلاط الملكي وعمل لدى عائلة هابسبورغ، التي كانت تحكم النمسا، سفيرا ثم وزيرا للشؤون الخارجية ومستشارا في عهد الملك فرانسوا الأول.

إثر وفاة الملك، أصبح المسيّـر الفعلي للإمبراطورية، نظرا لعجز الوريث الشرعي فرديناند عن القيام بالمهمة.

تركزت اهتمامات مترنيح على الحفاظ على السلم في أوروبا وعلى مكتسبات معاهدات مؤتمر فيينا، الذي انعقد من نوفمبر 1814 إلى يونيو 1815.

في سبتمبر 1815، انضم مترنيخ إلى “الحلف المقدس” مع روسيا وبروسيا، نظرا لحرصه الشديد على الحفاظ على النظام الملكي ورفضه القاطع للأفكار الليبرالية والجمهورية والقومية، التي تولّـدت عن الثورة الفرنسية (1789).

حفاظا على السلم والاستقرار، كان من أشد المعارضين لتفكيك الإمبراطورية العثمانية لتخوفه الشديد من اندلاع فوضى قومية في البلقان على حدود الإمبراطورية النمساوية الهنغارية، الأمر الذي سيفيد روسيا.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية