مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“ليس المهم كم تُـنفق الدولة، بل كيف”

يرى جيوليانو بولوني أن البلدان الاسكندينافية تمثل أنموذجا يُـحتذى به في مجال السياسات الاجتماعية Keystone

لا تمثل النفقات الاجتماعية عبءًا على كاهل الدولة فقط، بل يُـمكن أن تكون أيضا مُـحركا كبيرا لعجلة النمو.

هذا أهم ما توصّـل إليه البروفيسور جيوليانو بونولي، الذي تسلّـم يوم الخميس 10 يناير جائزة لاتسيس لعام 2007.

في المقابل، يحذر خبير العلوم السياسية من كانتون تيتشينو في حديث مع سويس انفو، من مغبّـة تردّد سويسرا في اتخاذ الإجراءات الضرورية للتوقّـي من المسارات المؤدية للتهميش.

استقبلنا جيوليانو بونولي في شقّـته بمدينة فريبورغ وقد ارتسمت على ملامحه دهشة من الاهتمام الإعلامي الذي أصبح يحظى به منذ الإعلان عن حصوله على جائزة لاتسيس لعام 2007.

البروفيسور الشاب بمعهد الدراسات العليا للإدارة العمومية في لوزان، اعتبر الجائزة “اعترافا جميلا، ليس على المستوى الشخصي فقط، بل لأنها تكافئ بشكل غير مباشر دراسة السياسات الاجتماعية، وهو اختصاص لا يحظى بتقدير كبير في الأوساط العلمية”.

سويس انفو: ما هو الدافع وراء اهتمامك بالسياسات الاجتماعية؟

جيوليانو بونولي: لقد كان في الأمر شيء من المصادفة، مثلما هو الحال بالنسبة للعديد من القرارات المتعلقة بالمسيرة المهنية. فبعد أن أنهيت الجامعة في جنيف، تحوّلت إلى بريطانيا لإستكمال دراسات عليا في العلوم السياسية، وسنحت لي الفرصة للعمل على مشروع أبحاث يتعلّـق بالسياسات الاجتماعية.

لقد توصّـلت بسرعة إلى أهمية هذا الصِّـنف من الدراسات، ليس من وجهة نظر شخصية فحسب، بل للمجتمع.

سويس انفو: هل لعب اطلاعك على الوضع في انجلترا دورا ما في اختيارك هذا؟

جيوليانو بونولي: عندما وصلت إلى انجلترا في عام 1993، كان البلد يمر بمرحلة ما بعد تاتشر. وكانت مارغريت تاتشر (رئيسة وزراء بريطانيا من 1979 إلى 1990، التحرير) قد قامت بتدخلات ثقيلة على المستويين، الاقتصادي والاجتماعي. لقد كانت انعكاسات هذه السياسات النيوليبرالية واضحة جدا، وكانت تُـشاهد في الشوارع وعلى مستوى ظاهرة الفقر وفي الاتصالات مع الناس، وهو ما صدمني كثيرا، بحُـكم قدومي من جنيف الثرية.

يضاف إلى ذلك، أنه، وعلى عكس بريطانيا، لم تكن السياسة الاجتماعية في سويسرا مطروحة على جدول الأعمال في تلك الفترة، ولكن تغيّـرت الأمور لدينا أيضا إثر ذلك.

سويس انفو: ما هو سبب ذلك؟

جيوليانو بونولي: لقد وصلت المشاكل الاجتماعية، مثل ظاهرة البطالة الواسعة والطويلة الأمد، إلى سويسرا بتأخّـر 15 إلى 20 سنة، مقارنة بالجزء الأكبر من البلدان الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، التي بدأت فيها منذ منتصف السبعينات.

اليوم، أصبحنا نواجه بدورنا المشاكل المالية المتعلقة بالتأمينات الاجتماعية. فصندوق التأمينات على العجز يعاني من عجز سنوي، يفوق مليار فرنك، أما صندوق التأمينات على الشيخوخة والباقين على قيد الحياة، فهو لا يعاني من مشاكل في الوقت الحاضر، لكن بالنظر إلى الهيكلة الديموغرافية، فمن اليسير التوقع بأن تبدأ المشاكل مع حلول 2010 – 2015.

إن الحلول السهلة، التي تسمح بإعادة التوازن الحسابي (عن طريق التخفيض في نسب الفائدة والترفيع في مساهمات المشتركين)، ليست حلولا حقيقية، لأنها لا تؤدي إلا إلى ترحيل المشكلة.

أما التأخر الذي تحدثت عنه سابقا، فيمكن أن يشكِّـل نقطة إيجابية لسويسرا، نظرا لأنه يسمح باستخلاص الدروس من التجارب التي أنجِـزت في أماكن أخرى.

سويس انفو: تتحدث عن بطالة واسعة، لكن نسبة العاطلين عن العمل في سويسرا متدنية جدا مقارنة بأغلب بلدان منظمة التعاون والتنمية في أوروبا…

جيوليانو بونولي: إن ما يجب أن يثير الانشغال هي البطالة الطويلة الأمد، يجب أن يتم تجنّـب حدوث ظواهر شهدتها بلدان أخرى، أدت للتهميش الاجتماعي وارتبطت بسوق الشغل.

إن عملية التدهور بطيئة، لكن في صورة حدوثها، يُـصبح من العسير جدا العودة إلى الوراء. فالمساعي الرامية إلى إعادة الوئام الاجتماعي إلى الضواحي الفرنسية، تكاد تكون اليوم عملية شبه مستحيلة.

ومن المحتمل أن هذه التدخلات لو انطلقت قبل 15 – 20 سنة، أي عندما كانت مسارات التهميش هذه في بداياتها، لكان الأمر أيسر بكثير.

أكرر مرة أخرى، في سويسرا نتمتّـع بإيجابية التأخير، فلنستغلّـها ولا ننتظر أن تتفاقم الأمور.

سويس انفو: تشدد في أبحاثك على ضرورة إيجاد طريق ثالث بين سياسة محافظة للإبقاء على الحقوق المكتسبة وأنموذج نيوليبرالي، يشدد على ضرورة تقليص دور الدولة من خلال التحكّـم في النفقات والاجتماعية منها على الخصوص. ما هي الوجهة التي يجب اتخاذها؟

جيوليانو بونولي: تعتمد فكرة الطريق الثالث هذه كثيرا على مفهوم “الاستثمار الاجتماعي”، أي سياسات اجتماعية توفِّر مردودا للمجموعة الوطنية، ولا يتعلق الأمر فحسب بمردود على مستوى الانسجام الاجتماعي، ولكن على المستوى المالي أيضا.

فعلى سبيل المثال، يسمح توفير مواقع مدعومة أو مجانية في محاضن الأطفال للأمهات بالعمل، وهذه الأمهات تساهم بدورها في خلق الثروة، حيث يدفعن الضرائب والعلاوات الاجتماعية…

إن تمويل سياسات اجتماعية طموحة، ليس أمرا مستحيلا، مثلما تُـقيم الدليل على ذلك، نماذج البلدان الاسكندينافية، فقد نجحت هذه البلدان في الحفاظ على دولة اجتماعية متطورة جدا، لأنها لم تركِّـز اهتمامها على اتخاذ إجراءات وقائية، مثلما هو الحال بالنسبة للتقاعد (الذي يظل رغم كل شيء، في مستوى جيد)، بل على الاستثمار الاجتماعي.

في السويد، لا يكلِّـف موقع في دار حضانة أكثر من 300 فرنك في الشهر (للأشخاص الأكثر ثراءً)، أما في سويسرا، فإن الأسعار تتراوح ما بين 1500 و2000 فرنك في الشهر الواحد.

سويس انفو: اليوم، تُـهيمن بعض المصطلحات مثل “التحكّـم في النفقات”، على النقاش السياسي في سويسرا، فهل تعتقد أن فكرة مثل “الاستثمار الاجتماعي” سيكون لها مستقبل؟

جيوليانو بونولي: هناك بالفعل مشكلة خطيرة، إذ عادة ما تُـستعمل مصطلحات وتعابير تتعلق بالزيادة والنقصان. فهناك من يريد أن يُـنفق المزيد وهناك من يريد أن يُـقلِّـص من النفقات، وهو برأيي قضية مغلوطة.

البلدان الاسكندينافية هي التي تفرض أعلى الضرائب وهي التي تُـنفق أكثر من غيرها، لكنها من بين الأكثر قدرة على المنافسة على المستوى العالمي، لأن الجزء الأكبر من النفقات الاجتماعية تـُعتبر نفقات مُـنتجة، لذلك، فليس من المهم كم تُـنفق الدولة، بل ما يثير الاهتمام، هو ما الذي تفعله بالأموال؟ فإذا ما قامت بشيء مفيد للاقتصاد وللمجتمع، فيمكن أن يتحوّل أيضا إلى عامل إيجابي على مستوى القدرة التنافسية، وهذه – برأيي – فكرة لم تحظى بالقبول إلى حد الآن في سويسرا.

سويس انفو – دانييلي مارياني

(ترجمه من الإيطالية وعالجه كمال الضيف)

مؤسسة خاصة أنشئت عام 1975 في جنيف، من طرف عائلة لاتسيس اليونانية، التي جمعت ثروة طائلة في بداية القرن العشرين من أنشطتها في القطاع العقاري والنفط والبورصة وتجارة الفواكه الجافة.

في كل عام، تُـمنح أربعة جوائز أكاديمية، تبلغ قيمة كل واحدة منها 25 ألف فرنك، بالإضافة إلى ذلك، تُـمنح جائزة لاتسيس الوطنية إلى بحاثة تقل أعمارهم عن أربعين عاما، وجائزة على المستوى الأوروبي، وتقدر قيمة الجائزتين بـ 100 ألف فرنك.

منذ عام 1984، يتكفّـل الصندوق الوطني السويسري للبحث العلمي بمنح الجائزة الوطنية بتكليف من المؤسسة.

هذا العام، نُـظمت عملية تسليم الجائزة يوم 10 يناير في مقر بلدية العاصمة الفدرالية برن.

ولد في عام 1968 في كانتون تيتشينو وحصل على الإجازة في العلوم السياسية من جامعة جنيف.

في بداية التسعينات، تحول إلى انجلترا، حيث تابع دراساته العليا في جامعتي ليدز وكِـنت وحصل على الدكتوراه.

بعد عودته إلى سويسرا، اشتغل في جامعة فريبورغ ويُـشرف حاليا على كرسي السياسات الاجتماعية في معهد الدراسات العليا للإدارة العمومية في لوزان، كما يدرِّس في المعهد الأوروبي بجامعة بازل.

تركّـزت الأبحاث التي أنجزها جيوليانو بولوني بالخصوص، على الدور الذي تلعبه الدولة الاجتماعية في عدد من البلدان الأوروبية، وهي الأبحاث التي عُـرف بها على المستويين، الأوروبي والدولي.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية