حصيلة العام السعودي!
شهدت المملكة العربية السعودية في عام 2003 احداثاً مشحونة، مزجت بين تفجيرات إرهابية روعت البلاد، ومطالب بالإصلاح، وخطوات حكومية محدودة تعد بالتغيير.
ومع أن القناعة بضرورة الإصلاح ليست حكراً على النخب المفكرة، بل تتعداها إلى بعض صناع القرار، إلا أن المعادلة السياسية القائمة في المملكة تجعل من الإقدام عليه فعلاً أمرأً صعباً.
لو بحثنا عن عامٍ محدد من تاريخ المملكة العربية السعودية الحديثة يشبه في مجرياته عام 2003، لكان عام 1962 هو الخيار لا محاله. إذ كان عاماً للتقلبات بحق.
عايشت السعودية خلال ذلك العام زلزالاً سياسياً هدد اركانها، تمثل في إنقلاب عسكري مدعوم من مصر الناصرية، اطاح بالنظام الإمامي في اليمن الشمالي.
ولأنها كانت على قناعة بأن نظامها الملكي هو المستهدف في المقام الأول من تلك الخطوة، فقد وجدت نفسها في نفس الخندق مع بريطانيا العظمى (التي خشيت على مصالحها الحيوية في اليمن الجنوبي الذي كانت تستعمره آنذاك) في سعيها إلى وأد الجمهورية الوليدة.
بموقفها ذلك، صبت المملكة آنذاك مزيداً من الزيت على النار المشتعلة في داخل الكيان السعودي، خاصة وأن الغضـب من تحالفها مع المعسكر الغربي ضد نظام جمال عبدالناصر وتياره القومي كان مستعراً.
ووصل الأمر إلى المدى الذي جعل بعض التقارير الصحافية في تلك الفترة تتحدث عن “تواجد حركة سرية محظورة من المدنيين والضباط في المملكة، تنتظر الفرصة المناسبة كي تطيح بالوضع القائم”. وزاد من مصداقية تلك التقارير لجوء عدد من الطيارين السعوديين، المكلفين بحمل معدات عسكرية إلى الحدود اليمنية، بطائراتهم إلى مصر.
في ذلك الحين، كانت الدعوات إلى الإصلاح مرتفعة، وساهم في إذكاء قوتها غليان الحركة النقابية في المنطقة الشرقية، و تدهور اوضاع المملكة الإقتصادية والإجتماعية بسبب سياسات الملك سعود المتذبذبة والمبذرة.
كما كانت الأسرة السعودية في حد ذاتها منقسمة على ذاتها في صراع على السلطة بين الملك سعود وأخيه ولي العهد الأمير فيصل. لكن تطورات الوضع في اليمن حسمت الأمر لصالح الأخير، الذي أصبح من خلال موقعه كرئيس للوزراء الحاكم الفعلي للمملكة.
وتمثلت ردة فعل ولي العهد فيصل على التهديد الذي تعرضت له البلاد حينها في برنامج إصلاحي من عشر نقاط، وعد بتغييرات مستقبلية تشمل وضع قانون أساسي، وإنشاء مجلس شوري ومجالس بلدية، وإصلاح هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إضافة إلى رفع مستويات الحياة للمواطن السعودي، والبدء في خطط التنمية الإقتصادية للبلاد.
وبعد أن أستقر الأمر للأمير فيصل وأصبح ملكاً للبلاد في عام 1964، اكتفى بالتركيز على الجانب الإقتصادي من عملية الإصلاح، اما جوانبها السياسية والإجتماعية فقد رُكنت على رف النسيان.
بين عامي 1962 و 2003
لم يُعد التاريخ فصوله في عام 2003، بل سردها في حلة جديدة بمضمون مختلف، وإن كانت النتيجة واحدة. فالزلزال الذي هز كيان المملكة هذه المرة تمثل في الغزو الأمريكي للعراق. ولأن العراق كان المحطة الأولى في خارطة واشنطن لشرق أوسط جديد، آثرت السعودية الإلتحاق من جديد بالحافلة الأمريكية، ووفرت المقر لقيادة عملياتها العسكرية الجوية خلال فترة الحرب.
ورغم إعلان واشنطن اللاحق عن اعتزامها سحب قواتها المتمركزة في السعودية في إطار ماوصف بعملية إعادة إنتشار، إلا أن ذلك لم يشفع للمملكة لدى الكثيرين، الذين لاموا عليها تحالفها المتواصل مع معسكر واشنطن الأوحد.
غير أن اللافت في عام 2003 هو عدم اكتفاء البعض بمشاعر اللوم. فقد كشفت أحداثه عن حركة سرية من مجموعات متطرفة لجأت إلى العنف سبيلاً للتغيير، وتمخضت عن تفجيرات الرياض في شهري مايو ونوفمبر، التي حصدت أرواح العشرات من الأبرياء.
ولم تكن فئة الرفض العنيف، التي تتهمها السلطات السعودية بالإنضواء تحت لواء أسامة بن لادن، منفردة في رغبتها في التغيير. ففي مقابلها، برزت بقوة فئة أخرى من شرائح النخبة السعودية، تستند إلى قاعدة شعبية واسعة، وتدعو هي الأخرى إلى التغيير والإصلاح، ولكن من خلال إطار النظام القائم، وبالسبل السلمية، وبأهداف إصلاحية تختلف قلباً وقالباً عن أغراض الفئة الأولى.
لجأت النخبة إلى أسلوب رفع العرائض إلى ولي الأمر لشرح مطالبها، وتوالت عرائضها بدءا من شهر يناير الواحدة تلو الأخرى، حتى كانت العريضة الأخيرة التي تقدمت بها في شهر ديسمبر، والتي اختلفت عن سابقاتها في خطوة تظهر مدى تململ النخبة، حيث أنها لم تتوجه فقط إلى ولي الأمر بل إلى جميع شرائح الشعب أيضاً.
وعود.. وعود!
وقد يبدو تململ النخبة للبعض غريباً، خاصة وأن ولي العهد الأمير عبدالله أعلن في شهر نوفمبر عن عددٍ من الخطوات التي تُبشر بالتغيير. كان منها الإعلان عن خطة حكومية للإصلاح السياسي على مدى ثلاث سنوات، يتم بموجبها اجراء إنتخابات لأربعة عشر مجلساً محلياً في عام 2004، ثم انتخابات على مستوى المدن في العام الذي يليه، وإنتخابات ثالثة في عام 2006، يُجدد بمقتضاها 30% من أعضاء مجلس الشورى.
لكن وجه الغرابة سرعان ما يتلاشى عند النظر إلى القرار الذي اصدره الملك فهد (رغم ما يُفترض من أن مرضه لا يسمح له بإتخاذ مثل تلك القرارات) بعد شهر واحد من الإعلان عن خطة الأمير عبدالله.
ففيما وُصف بالقرار الهادف إلى إعطاء المزيد من الصلاحيات لمجلس الشورى، قرر خادم الحرمين تعديل مادتين من نظام مجلس الشورى. يعطى التعديل الأول للمادة 17 الحق لمجلس الشورى في “اقتراح ودرس الانظمة التي يراها من دون الحصول على الإذن المسبق من الملك”، أما التعديل الثاني للمادة 23 فيعطي الملك “الحق في إعادة الافكار والاقتراحات التي يرفعها مجلس الشورى، إعادتها الى ذلك المجلس أو التحفظ عليها”.
بعبارة اخرى، سواء أجريت إنتخابات أم لا، أو ناقش المجلس أفكاراً جديدة دون استئذان من الملك أو لا، فإن النتيجة لن تزيد في النهاية عن طحن الماء كي يصب أخيراً في وعاء العاهل السعودي.
محصلة المعادلة: جمود!
تململ النخبة إذن له أسبابه، وهو يتفاقم يوماً بعد يوم، خاصة وقد أصبح معتاداً أن ما تعطيه شريحة من الأسرة الحاكمة بيد، تعود شريحة أخرى منها لتأخذه باليد الأخرى.
تجلى ذلك بوضوح في قرار ولي العهد السابق ذكره، والذي ما لبث أن لحقه قرار خادم الحرمين. تماماً كما برز في إقالة جمال خاشقجي رئيس تحرير جريدة الوطن السعودية في نفس الوقت الذي كانت فيه الساحة السعودية تتحدث بابتهاج عن مساحة الحرية غير المسبوقة المتاحة للصحافيين فيها.
وهنا يكمن جوهر المأزق الحقيقي الذي تعيشه المملكة السعودية في اللحظة الراهنة. ليس لغياب الرغبة في التغيير كلياً. بل لرغبة شريحة من العائلة المالكة في الأقدام عليه، وإصطدام تلك الرغبة بمصالح شريحة أخرى منها.
ذلك أن المعادلة السياسية في الأسرة الحاكمة قامت منذ حسم الصراع على السلطة بين الملك سعود والأمير فيصل لصالح الأخير، على توزيع السلطة بين عددٍ من الأمراء المتنفذين، بهدف التخفيف من حدة التنافس القائم بين أجنحة العائلة المتناحرة.
لكن المحصلة الفعلية لتلك السياسة كانت في تحول اولئك الأمراء، هم وأبناؤهم، إلى مراكز قوة مهيمنة، جعلت من الصعب على أي ملك أو ولي عهد أن يسلك درب التغيير دون موافقتهم.
أضف إلى ذلك أن الرغبة في التغيير التي يبديها معسكر ولي العهد لا تذهب بعيداً في طموحها. وهي في ترددها لاتفعل ذلك خشية من ردود فعل من يعارضون التغيير، سواء كانوا من الأسرة أو من المؤسسة الدينية، بل لإدراكها ان الاصلاح إذا جاء سريعاً قد يزيح ورقة التوت عن الاهتراء الذي لحق بكيان الدولة.
هو مأزق، يختلف عن ذلك الذي واجهه ولي العهد الأمير فيصل في عام 1962، فقد كان خيار بناء أسس دولة الرفاه متاحاً أمامه. اما اليوم، ومع إطلالة عام 2004، فأن دولة الرفاه التي وضع أركانها تشارف على الاحتضار، على حين بقي المطلب السياسي معلقاً بين الأرض والسماء.
إلهام مانع – سويس إنفو
أعمار بعض أعضاء النخبة الحاكمة في المملكة العربية السعودية:
الملك فهد: 84 عاماً.
ولي العهد الأمير عبدالله: 79 عاماً.
وزير الدفاع الأمير سلطان: 78 عاماً.
وزير الداخلية الأمير نايف: 75 عاما.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.