مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

هل انتكست براعم “الديمقراطية العربية”؟

قوات الأمن المصرية تتصدى بشدة لأحد المتظاهرين المشاركين في تظاهرة تأييد للقضاة أمام مقر محكمة وسط القاهرة يوم 11 مايو 2006 Keystone

هل بدأ التعداد العكسي لبداية نهاية المشروع الديمقراطي الأمريكي في الشرق الأوسط الكبير؟

تنفي واشنطن ذلك بشدة، وتؤكّـد أن عملية الإصلاح يجب أن تستمر “مهما كانت الصعوبات” لكن الوقائع على الميدان تشي بالعكس..

هل بدأ العد العكسي لبداية نهاية المشروع الديمقراطي الأمريكي في الشرق الأوسط؟

تنفي واشنطن ذلك بشدة، وتؤكّـد أن عملية الإصلاح يجب أن تستمر “مهما كانت الصعوبات”.

لكن الأنظمة العربية السلطوية الحليفة لها ترد على هذا السؤال بـ “نعم” قوية عبر استئناف ما انقطع من وسائل القمع ضد شعوبها، غير عابئة بكل بيانات الاستنكار التي تصدر تارة من واشنطن.

من نصّدق؟ سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. قبل ذلك، فلنستعرض معاً ما يجري هذه الأيام في بعض الدول العربية الرئيسية.

الانقلاب المصري

في طليعة هذه الدول، تنتصب بالطبع مصر، وهذا ليس فقط لأنها أكبر وأهم دولة عربية، بل لأن المشروع الأمريكي لدمقرطة الشرق الأوسط الكبير، عينها القائدة، الأنموذج لعملية الدمقرطة هذه.

شهدت أرض الكِـنانة في الآونة الأخيرة انفجارا في درجات العنف ضد المعارضة، شمل عمليات ضرب وسحل في الشوارع واعتقال المئات الذين كانوا يتظاهرون في إطار ما بات يسمّـى “انتفاضة القضاء”.

هذا القمع المفاجئ، الذي لم يسبق له مثيل منذ 11 سبتمبر 2001، والذي سار في اتجاه معاكس تماماً لكل التعهدات الرسمية المصرية باحترام الحريات وقواعد حقوق الإنسان، أثار شكوك الكثيرين في الشرق الأوسط حول وجود “ضوء أخضر” أمريكي ما وراءه، وهي شكوك تعززت بتطورين اثنين:

الأول، خطاب الرئيس المصري حسني مبارك أمام المنتدى الاقتصادي العالمي في شرم الشيخ، والذي كان للمرة الأولى منذ سنوات “جريئاً” في انتقاده للعديد من التوجّـهات الأمريكية في المنطقة: من دارفور والعراق إلى الملفات النووية الإيرانية والإسرائيلية في المنطقة، ومن فلسطين إلى لبنان وسوريا. لكن الأهم أن مبارك وجد الفرصة سانحة، للمرة الأولى منذ أحداث 11 سبتمبر، للانقضاض على القرار الأمريكي بمنح الإصلاح الديمقراطي الأولوية على تسوية الأزمات الإقليمية، وقال بنبرة عالية ومميزة: “الإصلاح في المنطقة لن يكون الطريق إلى تسوية القضية الفلسطينية، بل العكس هو الصحيح، كان موقفنا ولا يزال، هو أن هذا التحليل لا يعي ظروف المنطقة وأوضاعها ومشاكلها، وأنا حذرت منه مراراً”.

بالطبع، ليس من الصعب اكتشاف المعطيات التي جعلت مبارك ينتقل من الدفاع إلى الهجوم في علاقته المتوترة منذ فترة غير قصيرة مع واشنطن حول مسألة أولوية الإصلاح. فإمبراطورية بوش غارقة حتى أذنيها في مستنقعات بلاد ما بين النهرين، الأمر الذي جعل إيران طليقة اليد في التصرف (وحتى إشعار آخر) كدولة إقليمية كبرى في الخليج وبقية المنطقة العربية، والاندفاعة الديمقراطية الأمريكية لم تجلب الترياق لمعضلة “الإرهاب”، بل على العكس أوصلت إلى السلطة في فلسطين، ونسبياً في مصر، قوى ترفض الاعتراف بإسرائيل وتصنفها واشنطن في خانة الإرهاب.

التطور الثاني، هي المقابلة الملفتة التي أجرتها “فاينانشال تايمز” في شرم الشيخ مع رئيس الوزراء المصري أحمد نظيف، والتي ركّـز فيها على النقاط الآتية:

· القاهرة لا تشعر بأنها تتعرض إلى ضغط من واشنطن لتسريع الإصلاحات السياسية، برغم بيانات المسؤولين الأمريكيين في هذا الشأن، وهي ليست على عجلة من أمرها لإجرائها.

· واشنطن لن تستعمل المساعدات لمصر (ملياري دولار) للضغط عليها من أجل الإصلاح،(وهو أمر أكّـدته لاحقاً واشنطن أيضاً).

· لم يؤكد نظيف التقارير التي تحدثت عن أن حكومته ستمنع الإخوان المسلمين من الترشح كمستقلين في الانتخابات المقبلة، لكنه لم ينفها تماماً أيضاً، لا بل نسب إلى الرئيس الأمريكي بوش وصفه حركة الإخوان المسلمين في اجتماع معه العام الماضي بأنها “منظمة إرهابية”، برغم أن هذه الأخيرة غير موجودة على أي لائحة إرهاب في الولايات المتحدة.

.. ودول أخرى

هذه المواقف السياسية الحادة، التي ترافقت مع مواقف أمنية عنيفة أكثر حدة، لم تكن قصراً على مصر، بل طالت العديد من الدول العربية التي شعرت بأنه بات في مقدورها الرد بـ “شجاعة” على كل الضغوط الغربية المتعلقة بالديمقراطية.، وكان هذا واضحاً في سوريا، التي لم تكتف باعتقال 12 ناشطاً سورياً من الموقّـعين على “إعلان بيروت – دمشق، دمشق- بيروت”، الداعي إلى علاقات جديدة بين البلدين، بل أرفقت ذلك ببيان قوي ندّدت فيه بشدة الاتحاد الأوروبي الناقد لها ودعته إلى “وقف السماح بإقامة السجون الطائرة في أجوائه ومطاراته، والمعتقلات السرية فوق أراضيه”، قبل انتقاد الممارسات السورية.

كما كان واضحاً في اليمن، التي دشّـنت سلطاتها مؤخراً حملة اعتقالات واسعة ضد الصحفيين وبعض قادة المجتمع المدني، برغم أن رئيس هذه الدولة علي عبد الله صالح كان أول من دعا إلى تطبيق الإصلاحات الديمقراطية، رافعاً شعاره الشهير: “فلنحلق بأنفسنا قبل أن يحلقوا لنا”.

وفي تونس، تعرّض رئيسها زين العابدين بن علي، الذي أعلن مراراً التزامه بتطبيق الديمقراطية، إلى انتقادات قوية من مؤسسة “فريدوم هاوس” بسبب استئناف مضايقة الإعلاميين والاعتداء عليهم جسدياً”. كما أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية في 3 أبريل الماضي بياناً شدّد على إدانة حالات قمع محددة ضد المحامي محمد عبو، ونايلة شرشور حشيشة لانتقادها الرئيس التونسي ومطالبتها بالديمقراطية.

ثم جاءت إشارة مهمّـة من المملكة العربية السعودية، إذ أصدر وزير الخارجية سعود الفيصل بياناً بعد لقائه الرئيس بوش في واشنطن، امتدح فيه، للمرة الأولى منذ فترة غير قصيرة، سياسات هذا الأخير في الشرق الأوسط. كما خلا البيان الأمريكي الذي صدر عقب هذه المحادثات من أي إشارة إلى مسألة الإصلاحات، مستعيضاً عنها بالحديث عن المصالح النفطية والإستراتيجية للبلدين.

معسكران

نعود الآن إلى سؤالنا الأولي: هل جاء اندفاع الأنظمة إلى العنف كنتيجة لتراجع واشنطن عن مشروعها الديمقراطي؟

يميل المراقبون إلى التأكيد بأنه ليس هناك بالفعل تفسير آخر لهذا العنف، سوى أن واشنطن عطست، فأصيب كل الشرق الأوسط بالزكام، وهي كانت عطسة لا ديمقراطية، شجّـعت الأنظمة العربية على “استئناف العمل كالمعتاد” مع شعوبها.

تمثلت مؤشرات هذه العطسة في عودة الجدل في أمريكا بين الواقعيين والمثاليين حول مشروع التغيير الديمقراطي في الشرق الأوسط، إلى المربع الأول، بسبب تعثّـر مشروع واشنطن في العراق، والصعود المدوي للإسلاميين في مصر وفلسطين، وتصاعد العمليات الإرهابية بدل تناقصها.

فالواقعيون يرون إلى هذه التطورات على أنها دليل على أن التغييرات الديمقراطية الأخيرة في الشرق الأوسط، لم تصب في خانة المصلحة القومية الأمريكية (والإسرائيلية)، ولم تخدم حتى كأداة لكشف المستور من تخطيطات الإسلاميين وتوجهاتهم وبالتالي، لا مناص برأيهم، من العودة إلى الاعتماد على الأنظمة السلطوية لتأمين هذه المصالح، كما كان الأمر طيلة السنوات الستين الماضية.

تحظى وجهة النظر هذه بالطبع بدعم حماسي من اللّـوبي اليهودي اليميني في أمريكا ومن إسرائيل، اللذين كانا يعارضان من البداية فكرة الديمقراطية العربية، كما أنها تحظى أيضاً بتفهم جنرالات البنتاغون وأجهزة الاستخبار القومية، الذين يفضلون رؤية نتائج سريعة على الأرض عبر أدوات القمع العربية، على انتظار عقد أو عقدين لتحقيق النتائج نفسها عبر الأدوات الديمقراطية العربية.

أما المثاليون فيبدون هذه الأيام في حيص بيص. فلا هم قادرون على الدفاع عن مشاريعهم الأيديولوجية في الشرق الأوسط، ولا في وسعهم ببساطة إعلان تراجعهم عنها.

أعربت مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية السابقة مؤخراً “واشنطن بوست” عن خشيتها من هزيمة المثاليين وانتصار الواقعيين، وحذّرت من أن ذلك سيتسبّـب بمضاعفات كارثية على سمعة أمريكا ونفوذها في الشرق الأوسط وبقية أنحاء العالم.

ويبدو أن روبرت زوليك، مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية، اختار مؤتمر المنتدى الاقتصادي العالمي في شرم الشيخ للرد على هذه المخاوف، فأكّـد أن “الشرق الأوسط يمر بمرحلة تغيير مهمة، تتمثل في انهيار النظام الشرق أوسطي القديم”، وأن الولايات المتحدة “ستواصل دعم أولئك في المنطقة الذين يقودون الحملة لتحقيق الإصلاحات السياسية والاقتصادية”. لكن، ومرة أخرى، من نصّدق؟

ضريبة الدم

فلنقل أولاً، إن الاندفاعة الأمريكية الأولى لدمقرطة الشرق الأوسط، فقدت زخمها أو على الأقل طموحات محافظيها الجدد، الذين كانوا ينوون تغيير كل خرائط المنطقة السياسية والإستراتيجية والاقتصادية دفعة واحدة.

ولنقل ثانياًً، إنه من المرجّـح الآن، وفي ضوء كون الإسلام السياسي “غير المطواع” (كإخوان فلسطين ومصر وغيرهم)، هو المستفيد الأول من الإصلاحات السريعة، أن تعمد واشنطن إلى التركيز على أولوية الإصلاحات الاقتصادية على السياسية، كما فعلت في شرق وجنوب شرق آسيا، وعلى دعم نمو الأطراف الليبرالية والعلمانية العربية لمواجهة الإسلام السياسي.

وبالطبع، ستجد الأنظمة العربية، التي اشتمت سريعا روائح دم هذا التحوّل الأمريكي، في ذلك فرصة أكثر من ذهبية لإعادة إدخال مجتمعاتها المدنية إلى أقفاصها، وهذا بالتحديد ما تسارع إلى فعله الآن.

لكن، هل تنجح؟ الأمور ستعتمد على الشعوب العربية نفسها التي يبدو أن عليها من الآن فصاعداً دفع ضريبة دم فادحة، مقابل الحصول على حرياتها.

لكن هنا ثمة أمران لصالح هذه الشعوب: الأول، أن الاندفاعة الأمريكية قوّضت بالفعل، كما قال زوليك، العديد من أسس النظام الشرق أوسطي القديم، وإن كانت رياح هذا التقويض لم تسر كما تشتهي سفن واشنطن. والثاني، أن المجتمعات العربية التقطت بعض أنفاسها المكتومة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ويُـفترض أنها لن تتخلى عن هذا المكسب ببساطة.

وكما يقول نيقولو ماكيافيلي عن حق: “من الصعب إعادة السيطرة على أي شعب تذوّق، ولو لمرة، طعم الحرية”.

سعد محيو – بيروت

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية