الحياد السويسري يعود إلى الواجهة: ماذا تقترح المبادرة الشعبية الجديدة؟
تهدف مبادرة الحياد إلى ترسيخ تفسير صارم للحياد في الدستور الفدرالي السويسري. فما انعكاسات ذلك على السياستين الخارجية والأمنية في سويسرا؟
بماذا تطالب مبادرة الحياد؟
في عام 2026، سيُدلي الشعب السويسري برأيه في صناديق الاقتراع حول مبادرة الحياد. فإذا أيدتها غالبية الكتلة الناخبة والكانتونات، فسيُدرج مبدأ “الحياد المسلّح الدائم” في الدستور السويسريرابط خارجي.
وبموجب الدّستور الفدرالي السّويسري، في صيغته الحالية، يتولّى كلٌّ من البرلمان والحكومة اتخاذَ التدابير اللازمة لصون حياد البلاد. ولذلك، تحظى الحكومة السويسرية بمرونة مكَّنتها من تكييف حيادها مع التطوّرات الجيوسياسية، على مدى عقود. غير أنّ مبادرة الحياد ستقيّد هذه المرونة.
وتسعى هذه المبادرة الشعبية إلى إدراج نصّ صريح في الدستور، يمنع انضمام سويسرا إلى أي تحالف عسكري. وهذا الحظر قائم بالفعل في الدول المحايدة، ومنها سويسرا، بموجب قانون الحياد، المنصوص عليه في اتفاقيات لاهاي لعام 1907. فينهي الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، كما فعلت السويد وفنلندا عام 2023، تلقائيًا صفة الحياد لسويسرا. كما لن يكون الانضمام إلى مثل هذا التحالف العسكري ممكنًا في النظام السويسري، إلا بعد إجراء استفتاء شعبي.
على صعيد السياسة الأمنية، قد تَضطر سويسرا، بسبب هذه المبادرة، إلى خفض مستوى تعاونها مع حلف شمال الأطلسي، بما في ذلك برنامج “الشراكة من أجل السلام”رابط خارجي، المشاركة فيه منذ عام 1996.
أمّا التغيير الأبعد أثرًا، فيتمثّل في حظر “التدابير القسرية غير العسكرية”. وبذلك، لن يكون بمقدور سويسرا فرض عقوبات بشكل مستقل على الدول التي تخوض حربًا. وستقتصر العقوبات الممكن تطبيقها على تلك المعتمَدة من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
ما الذي يميّز الحياد السويسري اليوم؟
الحياد السويسري اختياري، وليس التزامًا بموجب القانون الدولي، إذ يمكن إلغاؤه. وهو حياد محمي بالسلاح. فالجيش مكرّس للدفاع عن النفس، ويحظى باعتراف دولي. كما تقتصر قيود الحياد على المجال العسكري. إذ يجوز لسويسرا التعاون دبلوماسيًّا، واقتصاديًّا مع الدول التي تخوض حربًا.
ما أصل الحياد السويسري؟
تُعدّ سويسرا من الدول ذات الحياد الدائم، مثل النمسا وأيرلندا،. واليوم، هي البلد الممتدّ تاريخ حياده إلى أبعد مدى.
ويحظى الحياد السويسري بالاعتراف الدولي منذ مؤتمر فيينا عام 1815، عندما اتفقت الدول المحيطة على خدمة “الحياد السويسري الدائم” المصالح المشتركة.
ومن الناحية القانونيّة، يستند الحياد السويسري اليوم إلى اتفاقية لاهاي، التي وقعتها سويسرا عام 1910. وبوصفها جزءًا من القانون الدولي، تحدِّد هذه الاتفاقية تصرُّفات الدولة المحايدة في حال نشوب حرب بين دولتين. فلا يجوز لها المشاركة في أي نزاع مسلح، ولا تقديم دعم عسكري لأي من الأطراف المتحاربة. أمَّا المواقف السياسية أو العقوبات الاقتصادية، فتبقى ممكنة.
المزيد
هكذا تدفع روسيا الدول المحايدة إلى أحضان حلف الناتو
ولضمان سلامة أراضيها، يجوز للدولة المحايدة، مثل سويسرا، التعاون عسكريًا مع دول أخرى، في استيراد الأسلحة مثلًا. لكن لا يجوز للدول المحايدة الانضمام إلى تحالف دفاعي، يلزم أعضاءه بمساندة الحلفاء عند نشوب نزاعات. والجدير بالذكر، تتضمّن معاهدة حلف شمال الأطلسي بندًا من هذا القبيل للدفاع المشترك.
ورغم وضوح قانون الحياد، هناك مجال كبير للمناورة في “سياسة الحياد”.
ما هي “سياسة الحياد”؟
تشمل “سياسة الحياد” الإجراءات التي تتخذها سويسرا لضمان حيادها، وتعزيز مصداقيتها على الصعيد الدولي. وقد دأبت سويسرا على تكييف صياغة حيادها وفق الظروف المتغيّرة. ففي الحرب الباردة، كان تعريف الحياد ضيقًا للغاية. وكانت سويسرا متحفظة إزاء الانضمام إلى منظمات دولية، مثل مجلس أوروبا الملتحِقة به عام 1963.
وأدى انهيار الاتحاد السوفيتي إلى دخول سياسة الحياد السويسرية مرحلة جديدة. فمنذ عام 1993رابط خارجي، باتت سياستها الخارجية تستند إلى مبدأ مفاده تحقُّق الأمن الدولي على أفضل وجه عبر التعاون.
كيف تؤثر الحروب والنزاعات الراهنة في النقاش حول الحياد السويسري؟
منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، ثار جدل حادٌّ في سويسرا حول الحياد، بعد اعتمادها معظم عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد روسيا. لكن، يعتبر البعض فيها عدم كفاية الإجراءات السياسية ضد روسيا، بوصفها الطرف المعتدي.
في المقابل، يرى البعض الآخر، ومنهم كريستوف بلوخر، المؤثِّر في توجهات حزب الشعب السويسري اليميني، أنَّ العقوبات الاقتصادية “أداة من أدوات الحرب”. ودعا إلى عودة سويسرا إلى الحياد الكامل، على غرار ما كان في ثلاثينات القرن الماضي، المستبعِد للعقوبات. ومن هذه الفكرة، نشأت “مبادرة الحياد”.
المزيد
إلى أي تقليد سياسي تنتمي هذه المبادرة الشعبية؟
ورد على الموقع الإلكترونيرابط خارجي لمبادرة الحياد أنّ “سويسرا تتخلى عن حيادها شيئًا فشيئًا”، مشيرةً إلى حدوث ذلك من خلال التقارب مع حلف شمال الأطلسي، إلى جانب تبنّي عقوبات الاتحاد الأوروبي على روسيا.
تقف وراء المبادرة شخصيات بارزة، من بينها سيب بلاتر، الرئيس السابق للفيفا، إضافة إلى شخصيات سياسية يمينية. لكن الجهة الأساسية الداعمة لها هي جمعية “لأجل سويسرارابط خارجي“. وقد نشأت هذه الجمعية عام 2022، كامتداد لتحالف “من أجل سويسرا مستقلة ومحايدة”، المعروف باسم آسين (ASIN). وتأسس هذا التحالف في الثمانينات بمبادرة من كريستوف بلوخر، من لجنة نجحت آنذاك في منع انضمام سويسرا إلى الأمم المتحدة. وفي وقت لاحق، انضم آسين إلى تحالف نجح في منع انضمام سويسرا إلى المنطقة الاقتصادية الأوروبية، عام 1992.
كما تعارض جمعية “لأجل سويسرا” الاتحاد الأوروبي، وتمارس الضغط ضد حزمة الاتفاقيات الجديدة المقترح إبرامها بين سويسرا والاتحاد الأوروبي.
ووفقًالمذكرة الحجج رابط خارجيالخاصة بالمبادرة، يقود الاندماج الأوروبي إلى تقويض “المبدأ الأساسي” للدولة السويسرية، المتمثّل في البقاء خارج النزاعات، وعدم الانحياز الأيديولوجي.
ما موقف الحكومة السويسرية من مبادرة الحياد؟
عارضت الحكومة السويسرية المبادرة. ولكن، أكَّدت في رسالتها بشأن الموضوع، أنها “مقتنعة بقيمة الحياد بالنسبة إلى سويسرا”. لكنها ترى أنّ المبادرة تمثل “تراجعًا عن المرونة المثبِتة لجدواها في تطبيق الحياد”، وأنّ إقرار مبادرة الحياد سيُقيّد هامش حركة الحكومة الفيدرالية في السياسة الخارجية على نحو ملموس، لا سيَّما في مجال العقوبات الاقتصادية.
كيف يقيّم الخبراء والخبيرات مبادرة الحياد؟
تساءلت كونستانز شتيلزن مولر، المحامية الألمانية العاملة في معهد بروكينغز البحثي (Brookings Institution) بالعاصمة الأمريكية واشنطن، خلال جلسة استماع أمام لجنة السياسة الخارجية في مجلس الشيوخ السويسري، عن فائدة التزام سويسرا بالحياد الصارم.رابط خارجي وخلصت إلى استفادة سويسرا حتى الآن من إقامة بعض أوجه التعاون مع دول أخرى، بوصفها دولة محايدة. وانطلاقًا من ذلك، تساءلت المحامية الألمانية عمّا إذا كانت “مبادرة الحياد” الوسيلة المناسبة لضمان أمن سويسرا، وسيادتها.
في المقابل، يدعم فولف ليندر، الباحث السياسي السويسري، “مبادرة الحياد”. وكتب على منصة “إنفوسبربر”رابط خارجي (Infosperber)، تهدف المبادرة الشعبية إلى “ترسيخ الحياد ومبادئه الأساسية في الدستور”، ما يحد من “التفكير قصير الأمد” لدى بعض الأوساط السياسية. ويرى الأستاذ المتفرِّغ في العلوم السياسية بجامعة برن، أنّ “المجلس الاتحادي السويسري أضرّ، للأسف، إلى حد ما” بمصداقية الحياد السويسري على الصعيد الخارجي خلال السنوات الثلاث الماضية.
المزيد
تحرير: بنيامين فون فيل
ترجمة: أحمد محمد
مراجعة: ريم حسونة
التدقيق اللغوي: لمياء الواد
المزيد
نشرتنا الإخبارية المتخصصة في الشؤون الخارجية
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.